في أواخر عام 2006، اعترف الكاتب الألماني المعروف «غونتر غراس» لأول مرة في لقاء له مع صحيفة «فرانكفورتر ألجماينة» بأنه عمل لفترة محدودة لدى الوحدات النازية الخاصة المعروفة باسم «أس أس».

Ad

وقد شكل هذا الاعتراف صدمة عنيفة للأوساط الألمانية، ولأوساط المثقفين في كل مكان.

وعلى الرغم من أن أمرا كهذا يمكن تفهمه في سياق المرحلة التاريخية التي كانت النازية، خلالها، قد أدخلت «العسكرة» إلى جميع نواحي الحياة الألمانية، وأجبرت أغلبية الناس، بمن فيهم طلاب المدارس الصغار، على الانخراط في أجهزة النظام العسكرية والاستخبارية، ومنهم الفتى «جوزيف راتسنجر» الذي أصبح اليوم بابا الفاتيكان «بيندكت السادس عشر»، فإنّ موضع المفاجأة في اعتراف «غونتر غراس» هو أنه بخلاف المتوقع، لم يكن مجبراً على ذلك إطلاقا، إنما كان قد تطوع من تلقاء نفسه، عندما كان في الخامسة عشرة، للعمل في فصائل «الشبيبة الهتلرية»، مما قاده بعد عامين للعمل ضمن فرقة الوحدات الخاصة التي كانت بمنزلة جهاز حراسة يتولى حماية «أدولف هتلر» والنازية، واشتهرت بارتكابها الكثير من الأعمال الوحشية.

وعلى أيّ حال، فإنّ ما يقوم شفيعاً لغراس والبابا وأمثالهما، هو أنهم في حالتي التطوع والإجبار، كانوا أطفالا صغارا، وفي سن حرجة يسهل فيها جدا أن يخضعوا لأهواء النفس المضطربة، أو أن يذعنوا لإرادة القوة الجبارة الطاغية، خصوصاً أن كثيرين منهم قد عملوا بعد ذلك على مداواة تلك الندبة المسمومة القديمة في قلوبهم، بالتعبير الصارخ عن إدانتهم ونقدهم لتلك الحقبة الإجرامية.

لكن تلك الشفاعة ستقف عند هذا الحد، ولن تتجاوزه، بأي حال لإدخالهم في زمرة ذوي النفوس الكبيرة ممن لم يتطوعوا وممن لم يسكتوا عندما أجبروا على الالتحاق بقافلة الموت.

وعلى رأس قائمة هؤلاء يقف الكاتب «وولفغانغ بورشرت» الذي ربما كان سيغدو جديراً بنيل جائزة نوبل قبل غراس، لولا أن نفسه الكبيرة قد أوردته أصنافاً من العذاب، وأوردت بزهرة حياته في ذروة ربيعها.

إنّ الأثر العميق الذي تركه «بورشرت» في سجل الأدب الألماني، قد يحمل من يسمع به على الظن بأن وراءه تاريخاً طويلاً حافلاً بالإنجازات... لكنه، حين يطلع على سيرته، سيفاجأ بأن هذا الإنسان لم يعش أكثر من ستة وعشرين عاماً، وأن إبداعاته التي قاربت الأربعين قصة مكثفة وبعض القصائد، إضافة إلى مسرحية واحدة، قد جاءت جميعها في خضم تسعة أعوام فقط... هي كل حياته الأدبية!

ولد «وولفغانغ بورشرت» في عام 1921 وتوفي في عام 1947 وإذا كان قد نشر قصيدته الأولى في عام 1938، فهذا يعني أن تجربته الأدبية لم تمتد لتكمل حتى عشرة أعوام.

إن هذه المدة تبدو قصيرة جداً لتحقيق تجربة أدبية مميزة وقادرة على البقاء، حتى بالنسبة لمن يعيش حياة هادئة متفرغاً للكتابة كليا، فما بالك إذا كانت تلك التجربة تجري على هامش ضئيل وضيق وقلق من صفحات تلك الأعوام العاصفة بالمرض، ومصاحبة الموت في جبهات الحرب، والتنقل بين زنازين السجون، والوقوع في الأسر، ومواجهة حكم الإعدام... ثم الموت أخيراً بمرض اليرقان؟

لقد كان هذا الفتى الموهوب (بائع الكتب، والممثل، والشاعر، والقاص، والكاتب المسرحي، والجندي برغم أنفه) صوتاً عالياً وجريئاً ضدّ السلطة الجبّارة وضدّ الحرب النازية وكلّ حرب أخرى، ومثالاً رائعاً لحب الإنسانية جمعاء.

وفي مثل عالمنا المكتظ بالكتّاب الطفيليين والانتهازيين والمرتزقة والمحلّقين في فضاءات دناءاتهم وأنانياتهم بعيداً عن قضايا المظلومين والمحرومين، لا نملك إلا التسليم بالشرط الدقيق الذي وضعه «بورشرت» كمعيار للكاتب الحقيقي، بوصفه شخصاً يسمّي الأشياء بأسمائها، ويجهر برأيه تحت جميع الظروف وبأيّ وسيلة ممكنة، ولا ينسى، عند تطلّعه من عليائه إلى السماء، أن بيته قائم على الأرض في دنيا الناس.

وذلك ما جاء في نصّ له بعنوان «الكاتب» وفيه يقول: «على الكاتب أن يضع اسماً للمنزل الذي ساهم الجميع في بنائه، وأن يضع أسماء للغرف المختلفة، يجب عليه أن يسمّي غرفة المرض بغرفة الحزن، والعلّية بالغرفة العاصفة، والقبو بالغرفة الكئيبة، ليس له حق في أن يسمّي القبو بالغرفة الجميلة.

وإذا لم يعطه أحد قلماً، فيما هو يعاني القنوط، فعليه أن يحاول الخربشة على الجدار بمقبض الملعقة، تماماً كما في السجن: «هذا ثقب بغيض».

إنّه لم يفعل ذلك في ساعة بؤسه، فهو إذن ليس كاتباً أصيلاً، بل ينبغي أن يرسل للالتحاق بكنّاسي الشوارع.

وينبغي للكاتب أن يقيم في علّية المنزل، فمن هنا تبدو المناظر أكثر غرابة. والغرابة هنا تعني أنها فاتنة ورهيبة. في العلّية عزلة ووحشة، إنها الأبرد هناك، والأكثر حرارة.

وفي المساء يمكن للكاتب أن يتطلّع إلى النجوم، لكن الويل له إذا لم يشعر بأن منزله في خطر، إنّ عليه حينئذ أن ينفخ في النفير حتّى تتمزق رئتاه.

ولقد نفخ «بورشرت» في النفير حتى تمزق كله... إذ إنه ظل ينفخ حتى فارقته الروح، وكانت كلماته الأخيرة بيانا صارخا موجها إلى جميع البشر من جميع الأجناس والطبقات والمهن، يُحمّلهم فيه وصيته الأخيرة في نص طويل نسبيا عنوانه «هناك شيء واحد فقط»، وهذا الشيء الواحد الذي عناه هو كلمة «لا» كبيرة، ينبغي لكل إنسان أن يقولها، إذا دفعت به أيدي الوحوش إلى مهاوي الحروب والقتل والتدمير.

يقول بورشرت: (أنت، أيها الرجل الواقف عند الماكينة، أو العامل في المشغل، إذا أخبروك غدا بأنّ ليس عليك بعد الآن أن تصنع قدورا أو أنابيب مياه، لكن عليك أن تصنع خوذا فولاذية ورشاشات، حينئذ هناك شيء واحد فقط عليك أن تفعله، قل: «لا»).

وعلى المنوال نفسه خاطب الفتيات المتحولات من الأعمال المدنية إلى تعبئة القنابل أو صنع مناظير القناصين، وأصحاب المصانع المُطالَبين بصنع مساحيق التفجير بدلا من مساحيق التجميل أو الكاكاو، والباحثين في المختبرات المأمورين باختراع موت جديد للحياة القديمة، والأطباء المضطرين إلى كتابة شهادات الصلاحية للخدمة العسكرية، ورجال الدين الموظفين لمباركة الجريمة والتصريح بقدسية الحرب، وربابنة السفن المكلفين بشحن الدبابات والبنادق بدلا من القمح، والقضاة المطالبين بأن يلتحقوا بالمحاكم العسكرية، ونُظّار السكك الحديد الموكلين بإعطاء إشارات الرحيل لقاطرات الذخيرة أو قطارات الجنود.

في وجوه جميع هؤلاء وغيرهم، صرخ بورشرت مطالبا إياهم بأن تكون لهم الكلمة الأخيرة: كلمة «لا» حتى إذا انتهى إلى مخاطبة الأمهات، استفاض بما يشبه النحيب، معتبراً كل أمٍّ على وجه الأرض هي أمه المتأهبة للثكل... من نورماندي إلى أوكرانيا إلى فريسكو إلى لندن إلى نابلس إلى هامبورغ إلى القاهرة وحتى أوسلو:

«أيتها الأمهات في كل بقاع الأرض، يا أمهات العالم، إذا طلبوا منكن غدا أن تنجبن أبناء وبنات: ممرضات من أجل المستشفيات العسكرية، وجنوداً جدداً من أجل المعارك الجديدة، حينئذ هناك شيء واحد فقط عليكن أن تفعلنه. قلن: لا... ذلك لأنكن إن لم تقلن «لا»، إذا «أنتن» لم تقلن «لا»... أيتها الأمهات، فعندئذ، عندئذ: سوف تخر السفن الكبيرة في مدن الموانئ الغائمة بالأبخرة المهتاجة، مرسلة أنينها الصامت. ومثل جثة التايتانك الضخمة ستترنح ببطء كجيف مائية قبالة الأرصفة الميتة المهجورة المكسوة بالطحالب، تفوح منها رائحة المقابر والأسماك المتعفنة، منحطة، سقيمة، ميتة.

وسوف تتمدد الترامات مثل أقفاص ذات أعين زجاجية ميتة الإحساس والبريق، منسحقة ومخلعة، بجانب السقوف المخرمة، في الطرقات الضائعة الممزقة بالقنابل».

بهذه الأنفاس الحارقة والمنذرة بالفجيعة، أطلق «بورشرت» زفرته الأخيرة، ومضى إلى بارئه، مثل جميع النفوس الكبيرة التي تتعب في مرادها الأجسام، كما قال شاعرنا المتنبي.

هناك طائفة من الفراشات الصغيرة المضيئة لا تتعدى دورة الحياة لديها أكثر من يوم واحد، لكن الفراشة من هذا النوع تعيش كل لحظة من ساعات عمرها الأربع والعشرين، بنشاط وعنفوان، وكأنها تحيا حياة الأبد.

ولم يكن «وولفغانغ بورشرت» إلا واحدة من هذه الفراشات.

* شاعر عراقي