منطقة خارج ألسنة النيران!
المنطقة الوحيدة من مناطق العراق غير المتوترة التي تواصل البناء والعطاء بهدوء ومن دون صخب هي منطقة كردستان، فالأمن منضبط ويخضع لسيطرة كاملة، والشوارع تزدحم بالمتسوقين وورش الإعمار والبناء تواصل عملها ليلاً ونهاراً.
يتردد يوميّاً على «مصيف صلاح الدين» الذي يقع إلى الغرب من أربيل عاصمة كردستان-العراق، بنحو خمسة عشر كيلومتراً عدد من زعماء هذه المرحلة العراقية ووزرائها، سنة وشيعة، وعربا وأكرادا، وصابئة مندائيين ومسيحيين ويزيديين، كما في مرحلة ما قبل إسقاط صدام حسين ونظامه. والحديث دائماً عن الحاضر المؤلم والمستقبل الواعد والأمن والأميركيين ودول الجوار والنفط والفساد وعصابات النهب والسلب والوحدة الوطنية المصابة بالحمى وارتفاع الحرارة. هؤلاء... كلهم يأتون إلى مسعود البارزاني ليسمعوه وليسمعوا منه وليقفوا على رأيه بالنسبة للاتفاقية التي يجري التفاوض بشأنها مع الأميركيين، وبالنسبة للعلاقات المتورمة بالمخاوف والتحسبات مع إيران، وبالنسبة لمستقبل كركوك المتنازع عليها، وبالنسبة للعنف الأسود الذي يضرب في كل مكان باستثناء هذا الإقليم، إقليم كردستان، الذي ينعم بهدوء يُحسد عليه والذي يؤسس لتجربة عراقية واعدة على صعيد الاقتصاد والتعددية السياسية والحزبية وعلى صعيد الحريات العامة والصحافة. المنطقة الوحيدة من مناطق العراق غير المتوترة التي تواصل البناء والعطاء بهدوء ومن دون صخب هي منطقة كردستان، فالأمن منضبط ويخضع لسيطرة كاملة، والشوارع تزدحم بالمتسوقين وورش الإعمار والبناء تواصل عملها ليلاً ونهاراً والجامعات، وأهمها جامعة صلاح الدين في أربيل، تُشعر زائرها بأنه في دولة لا ترعبها المتفجرات ولا يُرهق أعصابها أزيز الرصاص... ساحاتها مقسمة بين حلقات طلابية والنقاش يتركز على الحاضر والمستقبل وعلى ما يجوز وما لا يجوز. هناك بالإضافة إلى جامعة صلاح الدين العريقة، التي اقترب منها الإرهاب أكثر من مرة واقتربت من أسوارها الخارجية السيارات المفخخة مرات، جامعة السليمانية وجامعة دهوك، وهناك عشرات الصحف اليومية باللغة العربية والكردية والإنكليزية وفضائيات وصل عددها إلى سبع فضائيات بعضها جادٌ وموضوعي واحتل مكانة في دنيا الفضائيات الكونية وبعضها يشبه «الجانك فود» أو «البوشار» الذرة المقلية، حجمٌ كبير بلا فائدة وصراخ مرتفع من دون أي جملة مفيدة. في الطريق من أربيل إلى السليمانية هناك جبل اسمه «هيبة سلطان» وعندما تسأل عن أصل وفصل هذا الاسم يقال لك إن شاباً وخطيبته، الشاب اسمه سلطان والخطيبة اسمها هيْبة، قصدا ذات مساءٍ شتائي هذا الجبل للتنزه ولأن كلام المحبين لا نهاية له فقد استفاقا من أحلامهما، وقد ابتلعت العتمة المنطقة كلها، وقد سدَّ الثلج المتساقط باب الكهف الذي احتميا به... وهكذا إلى أن عثر الباحثون عنهما عليهما وهما جسدان متلاصقان ورأسان يُسند كل واحد منهما الآخر، وكان القرار أن دُفِنا في المكان نفسه وفي قبر واحد وأن أقيمت فوق القبر قبة لاتزال بقاياها صامدة حتى الآن. هناك في التاريخ قيس وليلى وعنترة وعبلة ومام وزين ودليلة وشمشون... وهناك في منطقة سرسنك إلى الشمال الشرقي من مدينة دهوك التاريخية التي تعني باللغة الآرامية القديمة «المدينة الصغيرة» كان ملوك العراق الهاشميون قد بنوا قصراً جميلاً وأنيقاً لايزال يطل بتواضع ووقار وحشمة من مكانه على السهول المترامية حتى مدينة «العمادية» ذات التاريخ السياسي والثقافي التليد، وبقي أهل المنطقة من الأكراد الطيبين يتعاملون معه كأيقونة مقدسة رغم أن أهله ثقب صدورهم الرصاص المجرم قبل نصف قرن في حين أن قصور صدام حسين التي بنيت فوق أعلى ذروة جبل في تلك المنطقة الجبلية لم يبق منها حجر على حجر، بينما لم يمض على سقوط تماثيله وسقوط حكمه سوى خمسة أعوام. كان أبو الأنبياء إبراهيم الخليل قد مرَّ بهذه المنطقة بعد أن كانت النار، التي رماه بين ألسنتها أهل أور، برداً وسلاماً عليه قبل أن يعبر نهر الخابور في طريقه إلى فلسطين، وكان الإسكندر المقدوني في طريق ذهابه إلى بلاد فارس قد توقف في أربيل وعسكر في قلعتها التي مرَّ عليها غزاة كُثر، والذي توقف في طريق إيابه في بابل ووافته المنية هناك فانقسمت إمبراطوريته المترامية الأطراف إلى أربع دول، على رأس كل دولة قائد من قادة جيشه الكبار... لكن كل هذه الدول ما لبثت أن تلاشت وزالت تباعاً لأن الانقسام هو الضياع، ولأن التشظي هو النهاية!* كاتب وسياسي أردني