عبد الرحمن الأبنودي

نشر في 13-06-2008
آخر تحديث 13-06-2008 | 00:00
 محمد سليمان مع فرسان الزمن الجميل صلاح جاهين وعبدالرحمن الأبنودي وعبدالحليم حافظ عشنا سنوات الصبا والصعود ورددنا خلفهم أجمل الأغاني والأناشيد الوطنية في الستينيات، ومعهم أيضا في سنوات الحزن والانكسار غنينا بعض قصائدهم التي كانت تغسل الروح وتطهر الجروح، وتفتح في حوائط الظلام واليأس شبابيك واسعة للحلم والأمل.

قصيدة الأبنودي «موال النهار» التي كتبها بعد هزيمة يونيو 1967 وغناها عبدالحليم مازالت بعد أربعة عقود جديدة ومتوهجة وقادرة على إثارة المشاعر وإيقاظ القلب وإزاحة الجمود.

قبل أن ألتقي بقصائد الأبنودي ودواوينه كانت أغانيه بفرادتها ومذاقها الخاص قد شكلت علاقتي به في الستينيات... أغنيته الشهيرة «عدوية» التي غناها محمد رشدي كانت على ألسنة الجميع في القرى والحقول كما كانت هناك برامج إذاعية تذيع بعض قصائده وتساهم في إبراز صوته وتشكيل نجوميته «جوابات... تحية وسلامات» وأذكر أنني تابعت حلقات ملحمته الشعرية «وجوه على الشط» قبل قراءتها.

في قصائده وأغانيه تعتمد شعرية الأبنودي على حساسيته للمفردة ولشعبيتها وعلى ميله إلى السرد وولعه بتشكيل الصورة الشعرية المستلة من مخزون تجربته:

«على غفلة زارني الحزن

قبض على قلبي نفس القبضة وآذاني

ما قلت آه أو أي

طبق على رفرفة روحي ولحمي الحي

وقرطني ولواني»

بالإضافة إلى التأمل والانشغال الدائم بطرح الأسئلة حتى في بعض أغانيه:

«دا حزن ولا وتر- دا قلب ولا حجر- دا دمع ولا مطر؟»

والجدير بالملاحظة أن القلق وهم التجديد لازما الشاعر ودفعاه أحيانا إلى التمرد على ذاته واتهامها حتى بعد رسوخ صوته وموهبته:

«لسه لساني ولسه أقلامي اللئيمة

مزحومة جوايا

بنفس لغتي القديمة»

هذا الاتهام كان مدخلا للبحث عن بدايات جديدة يتغير بها الجلد واللغة والصوت سعيا إلى التجريب للإمساك بالأحداث والأكثر التصاقا بالروح وبزخم الشاعر وتقلباته:

«أي الطرق هي اللي مش فجة

أنا القديم

أم هذه الضجة؟»

دائما يذكرني الأبنودي بالشعراء الشعبيين الذين ساهموا في تأسيس الوعي والذين كانوا يجوبون القرى في الماضي حاملين رباباتهم ومعبئين بالأغاني والقصائد والسير الشعبية... ثلاث أو أربع مرات في العام كان هؤلاء الشعراء يزورون قريتي لكي ينشدوا ويقصوا علينا وقائع السير الشعبية، ويجسدوا ملامح أبطالها، ولم يحدث أن استمعت إلى نفس السيرة من شاعرين مختلفين، فقد كان بوسع الشاعر أن يحذف أو يضيف أو يغير مسار الأحداث ليسعد جمهوره.

وارتباط الأبنودي القادم من إحدى قرى الجنوب بالسير الشعبية دفعه إلى إبداع سيرته الخاصة، فملحمته «وجوه على الشط» هي في الواقع سيرة شعرية لحرب الاستنزاف ومواطني مدن وقرى القناه الذين تشبثوا بأرضهم، واختاروا البقاء في الحقول والمنازل، واحتمال القصف وويلات الحرب، وهذا الارتباط نفسه هو الذي دفع الأبنودي في الأعوام الأخيرة إلى الانشغال بجمع وتحقيق السيرة الهلالية -إحدى درر تراثنا الشعبي- لانتشالها من الضياع والنسيان، خصوصا بعد أن توارى أو كاد ذلك الشاعر المنشد والحكاء حافظ السيرة وراويها.

في إحدى قصائده يقول الأبنودي:

«أنا صبي

ساعات باقول الحكمة

ما يقلهاش نبي

وساعات غبي

إمش يا رجلي ودبدبي

وأوعي يا إيدي تتعبي»

هذا الصبي المتمرد والحالم بالركض والطيران والقفز واجتياز العوائق بلغ السبعين من عمره بعد أن غنى للأرض والعيال والفصول والعمال، وكتب سيرة ثورة يوليو والسد العالي وحرب الاستنزاف ووقائع تهجير سكان مدن القناة، ثم حرب أكتوبر 73، وكل حروبنا الأخرى، فصار من حقه علينا أن نحتفي به ونحييه.

* كاتب وشاعر مصري

back to top