بمحض الصدفة، قرأت خلال الفترة الماضية أعمالاً روائية لكتّاب بمستويات متفاوتة، ولقد استوقفني التفاوت الواضح في المستوى الإبداعي، وجعلني أتفكر في الفرق الشاسع بين عمل روائي متقن، يقدم متعة فنية وثقافية وإنسانية، وبين عملٍ آخر يتلمس الطريق ليتمكن من الانضمام إلى جنس الرواية.

Ad

تجمع آراء النقاد المشتغلين في الفن الروائي، أن كتابة الرواية تحتاج إلى موهبة، لكنهم يختلفون في نسبة هذه الموهبة مقارنة بالتحصيل الثقافي، والخبرة الحياتية، وممارسة الكتابة. فهذه العناصر الأربعة تمثل الأساسات التي تنهض عليها أي كتابة إبداعية، وضمور أي عنصر منها يؤثر سلباً على النتاج الإبداعي.

الموهبة تُعدّ الركيزة الأساسية التي لا يمكن للكتابة أن تستقيم من دونها، وإذا جاءت الكتابة من دون موهبة حقيقية، جاءت حشواً ثقيلاً، ولغواً مزعجاً سرعان ما يستشعره القارئ، ويصدر حكمه بالتوقف عن القراءة وإضاعة وقته، لكن الموهبة وحدها لا تقوى على حمل الكتابة الإبداعية، من دون أن تكون مقترنة بالتحصيل الثقافي، فالصفة الأساسية المشتركة لدى جميع الكتّاب العظام في العالم، هي كون القراءة وحدها كانت شغلهم الشاغل في مرحلة ما من مراحل حياتهم، وأن القراءة كانت وسيلتهم الأجمل لاكتشاف العالم، ومعرفة قوانينه وأسرار جماله، وأنها، أي القراءة، شكلت خزينهم المعرفي الأهم، وكانت حافزهم ومحركهم الأول للكتابة.

إن موهبة مدعّمة بتحصيل ثقافي ومعرفي كبير، لا يكفيان من دون أن يُضاف إليهما خبرة حياتية عريضة وعميقة، فالكاتب يتحكم بالتجربة ويحولها إلى ذكرى، ثم يفرّغ هذه الذكرى لتكون مادة إبداعه، وكلما كانت الخبرة الحياتية متنوعة، شكّلت ثروة تعين الكاتب لحظة الكتابة، وكلما كانت عينا الكاتب مفتوحتين على آخرهما، لرؤية ما يدور حوله والتملي فيه، ومن ثم اختزانه، ليأتي لاحقاً مطعماً بقناعات ورؤى الكاتب، كانت الكتابة الإبداعية أقدر على خلق عالمها الفني المؤثر.

إن الموهبة والتحصيل الثقافي والخبرة الحياتية، هي عناصر لازمة لنجاح الكتابة الإبداعية، لكن لابدَّ أن يضاف إليها عنصر رابع وهو الممارسة، فأي فنان يبتعد عن آلته لمدة يفقد علاقته بها، وأي رياضي يهمل التمرين يتضرر في لياقته، وكذلك الأديب، لا شيء يجعله متمكناً من أداته الفنية وكتابته الإبداعية إلا الممارسة الدائمة، لذا فإن كاتباً عظيماً مثل نيقولاى غوغول يصرّح بأنه لا يمتلك الشجاعة على نشر أي عمل قبل أن يعاود كتابته ما لا يقل عن سبع مرات، وكأنه بذلك يترك للعمل أن يختمر تماما في ذهنه، ويترك له أيضاً أن يأتي بعيداً عن الشحنة الانفعالية، ويترك لنفسه أن يتبصر في موضوعه مرة ومرتين وثلاثاً وسبعاً. وأخيراً هذا الشكل من الكتابة يبقيه دائم العلاقة بأداته، ويعجل من الكتابة ممارسة يومية، تتحول مع الزمن إلى مسلك حياتي، بحيث لا يمكن للكاتب أن يستقيم يومه من دون كتابة.

هناك فرق شاسع بين عبارات جميلة وعبارات ضرورية في سياق العمل الإبداعي. وهناك فرق بين لغة اللغة، ولغة الرواية/الحياة. وأخيراً هناك فرق جوهري بين الحديث عن الحدث، وحديث الحدث.

الرواية مغرية، وهي تجر إلى سواحلها كتّاباً كثراً، صغاراً وكباراً، نساءً ورجالاً. لكنهم قلة أولئك الذين يكتبون رواية مبدعة تجعل القارئ مبهوراً بقدرة الفن على محاكاة الحياة، وتقديم حياة فنية أجمل منها.