بينما كنت جالساً في أحد المقاهي أرتشف قهوتي، شاهدت سيدة طاعنة في السن تتوكأ على كتف زوجها العجوز، فأخذت أراقبهما حتى جلسا على طاولة مقابلة لي، ودونما شعور مني رحت أمعن النظر وأدقق في وجهيهما، أظنهما تجاوزا الثمانين بقليل، وواضح من ملامحهما أنهما أوروبيان، وما هي إلا لحظات حتى ابتسمت العجوز بوجهي وحيّتني بعدما تنبهت لنظراتي الغريبة، فرددت تحيتها بأحسن منها مع بعض الحرج!

Ad

إنها إحدى عاداتي السيئة، فما إن أرى طاعناً في السن سيدة أو رجلاً، إلا أحملق في وجوههم كالأبله وأسرح بخيالي بعيداً، فلطالما شدّتني هذه الخطوط العميقة التي تسكن وجوههم، وتلك التضاريس التي تحكي زماناً مضى وولّى بغير رجعة، فما هذه التجاعيد التي اتخذت وجوه البشر مسكناً لها إلا سجلات تاريخ دوّنها الزمن على وجه إنسان، تحكي خطوطها العميقة لحظات متنوعة من المشاعر مرّت على هذا الكائن الغريب الذي يُدعى إنسان، لحظات شاركه فيها من عاش معه وإلى جانبه، فيها من الأحزان والآلام الكثير، وفيها من الفرح والسعادة ما يعلمه الله، وبين ثناياها النجاح والفشل، والحب والكراهية، والخوف والقلق، والحقد والحسد، والرضا والقناعة، والإيمان والكفر، آه أيها العجوز الجالس أمامي، ما أنت بإنسان أنت أرشيف الزمان يمشي على قدمين!

وهذه السيدة الثمانينية المبتسمة ابتسامة الرضا، وفي وجهها أثر غير مؤكد من جمال قديم، من يدري كيف كان ماضيها؟ أكانت في يوم من الأيام شابة فاتنة الجمال تتهاوى قلوب الشباب طلباً لودها؟ لعلها كانت تبادل أحدهم الحب بحب وشوقاً بشوق، أو لعلها كانت ماكرة لعوباً، هوايتها الكذب والغش والخداع، وهذا العجوز ذو الوجه الطيب الجالس بجانبها، أتراه كان في شبابه رجلاً طيبا أم كان شريراً؟ وكيف أمضى سنين عمره الزاهي، أفي تعاسة وشقاء، أم في سعادة وهناء؟ هل كان رجلاً شريفاً لقمته حلال وملبسه حلال، أم كان لا يفرق بين حلال وحرام؟ أتراه كان مثالاً للشرف والاستقامة، أم كان مجرماً لا يعرف الرحمة؟ وهل كان زمانهم كما يقولون أنظف من زماننا، وناسهم ألطف من ناسنا، وحياتهم أجمل من حياتنا، أم أنه ادعاء فارغ؟!

أووه... مالي أنا وهذه الأسئلة السخيفة التي لا طائل منها، فمهما يكن من أمر زمانهم سيبقى بعيونهم أجمل وأنقى، لأنهم كانوا شباب ذاك الزمان حيث الصحة والأحلام والآمال العريضة، ولأنهم عجائز هذا الزمان حيث المرض والوهن والفراغ والشعور بأنهم ضيوف ثقلاء على هذا الزمان وأهله، فكل شيء هنا لا ينتمي إليهم ولا ينتمون إليه، والكثير ممن حولهم ينتظر بلهفة مغادرتهم الكوكب والذهاب بلا عودة إلى المجهول!

أما عن نفسي فقد كنت ولاأزال، لا أطمع أن أجاوز السبعينيات أو منتصفها، لكنني كثيراً ما تساءلت أترى سيأتي عليّ يوم أصبح فأجد نفسي وحيداً بلا أنيس أو ونيس، وقد غادر الدنيا أحبابي وأصدقائي كلهم من بني جيلي ممَن عايشتهم وجالستهم، ويحزنني أن يدعو أحدهم- غير جاد- لي بطول العمر، فحين يجاوز المرء الثمانين يشعر بغربة في الزمان، وأن حياته غدت كأرض جرداء وقد خلت من كل مَن يحبهم ويهواهم!

كلما نظرت إلى وجوه الشيوخ والعجائز، عرفت أن حياة الإنسان قصيرة مهما طالت، وأحمق مَن لا يستمتع بكل لحظة فيها، مَن لا يقضي العمر متجولاً بين البلدان عبر الطائرات ومحلقاً بين الأفكار عبر صفحات الكتب، مَن لا يجرب المغامرات بأنواعها ولا يختلط ويتعايش مع بقية الثقافات والبشر، ويا له من عمر ضائع إن قضيناه في الحقد والكراهية من أجل اختلاف في الرأي والمعتقد. إن العمر يمضي سريعاً ولا نشعر به، تذكّر فقط أيام الدراسة وستشعر بأنها كانت البارحة، رغم مرور السنين الطوال على أيامها!

أتمنى للجميع أن يعيش حياته للحب وبالحب وأن يسعى إلى التقارب مع كل ما حوله، البشر والحيوان والنبات وأن يعيش في سلام داخلي مع نفسه، قبل أن يبحث عن السلام مع الآخرين، وألا يأتي عليه يوم ينظر في المرآة فيجد وجهاً متهدما تعلوه شعيرات بيض، ودمعة تساقطت على زمان مضى سريعاً من دون أن يشعر به، يبحث فيه عن لحظات الفرح فلا يتذكر منها سوى القليل، فكل شيء قد مضى وولّى ولم يبقَ له سوى هذه التجاعيد، تذكّره بأن الموت يبحث عنه منذ مدة!