الكائن النزق
الشعر كائن حي يعيش معك كالقرين او هو القرين بعينه، يقاسمك الهواء والدم والروح، يتنفس معك ويسير في عروقك ويحلق في فضاء ذاتك الشاسعة، وهو مخلوق حساس (نزق، قلق، صفق) ودود، صدوق، حقود اذا ما تجاهلته او لم تعره الاهتمام لانه يمتلك كبرياء هائلاً لا تحتشد الا في ذاته النرجسية المتعالية وهو كائن وفي، باسل يرفعك من عضديك كلما تهاديت من ضربات الحياة، ويرفع هامتك للعلا ويؤجج روحك بالقوة اللا متناهية، ويشحنك بالجسارة الطاغية تحت اقسى الظروف تماما كما فعل مع الشاعر التركي العظيم ناظم حكمت حينما اقتيد ليحبس في قاع سفينة عسكرية تمخر في البسفور وامعانا في اهانته اطلق العسكر عليه بواليع السفينة لتجتاح غرفته الحديدية الضيقة، وكان الماء القذر يعلو شيئا فشيئا وحينما وصل الى عنقه تقدم اليه «قرينه/ الشعر» ودعاه الى أن يغمض عينيه قليلا ليأخذه الى هضاب الاناضول التي تغنى بها طويلا، فأحس برائحة ازهار الحقول وحفيف الاشجار، وحينها اطلق الشاعر عقيرته بالغناء وهو يغني من اجل بلاده الخالدة، الأمر الذي اصاب العسكر بالاختبال، اذ كيف يمارس الغناء، ادمي وهو بهذا الوضع الخانق الحقير ولذلك ومن دون اي شعور منهم اخذوا يصفقون ويغنون خلفه اغنيات وطنهم الجميل.
والشعر هو الذي قتل المتنبي لئلا تمس كرامة الشاعر بالفرار، وهو ايضا الذي قضى على شاعر روسيا الكبير (بوشكين) دفاعا عن الحب الذي يعتبر قيمة عظمى لدى الشعر والشاعر على حد سواء، والشعر هو الذي نطق بلسان شاعره البدوي محدي الهبداني لينقذ قبيلته من غزو ساحق بالرغم من انه مطرود منها لدى قبيلة الأعداء. والشعر هو النشيد الوطني الفرنسي (المارسيليز) الذي أيقظ في الشعب الفرنسي حسه الوطني ودفعه الى مقاومة المحتلين الالمان، والشعر على النطاق المحلي هو السبب الحقيقي لاعتقال الشاعر العذب فايق عبدالجليل ابان الغزو الصدامي الغاشم وبالتالي اغتياله ليصبح شهيدا من اجل بلاده الكويت لانه غنى لها في الملمات. *** لذا فالشعر كائن عملاق ولكنه شديد الحساسية من اي امر ينتقص من قيمته واهميته حتى ولو جاء من قرينه الشاعر ذاته، بل انه ينتقم من شاعره بالقطيعة اشد الانتقام اذا ما احس بأي انصراف عنه، ولعلي في هذا الصدد اتذكر موقفا معه حينما انشغلت عنه بعض الوقت وكانت هذه القصيدة بمنزلة «رشوة» له ليعود الي بعد قطيعة مؤقتة. «الشعر غادرني وغاب/ في رحلة الى الصحراء/ ليجمع النوار والكما لكي يشم الريح والانداء/ لكي يمارس الجموح في العراء لكي يطير مثل الصقر في الفضاء/ لكي يطالع الانواء لكي يمارس النزق/ الشعر غادرني وهو الذي قد كان بريقي الذي/ شاركني/ الجوع/ والترحال/ والحزن والارق» ثم تتحدث القصيدة عن رفقته لي طوال العمر في تشردي الجميل في ظلمة الشوارع الخلفية الغريبة الاسماء، وهو الذي لطالما عاركته لأتفه الاشياء، ثم تتحدث القصيدة عن عراكي معه: «لكمته قددت ثوبه الجديد لكمني اسال من جروحي الدماء طاردته، امسكته في آخر النفق انهكته. انهكني وأخيرا عانقته وعدنا اصدقاء عاهدته بأن نظل اوفياء للصدق والجمال والنقاء عاهدته على الولاء اسكنته جوانحي وقلبي المضاء فعاد لي مرقرقاً في روحي الخضراء فشعّ وأتلق.