لا أدري سبباً يجعل البعض منا مسكوناً بهاجس «نظرية المؤامرة» وكأن العالم الآخر، أينما كان هذا الآخر، شرقاً أو غرباً، لا همَّ له أو انشغال سوى مراقبة العالم العربي، والتربّص به، ونصب الفخاخ له، والانقضاض عليه، ومن ثم الاقتصاص منه، والنيل من كرامته وحياته الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية.

Ad

ولقد انسحب هاجس المؤامرة، بشكل صارخ، على العديد من البحوث والدراسات والمقالات التي تناولت العولمة، وأرى أن موضوع العولمة يستحق نظرة علمية وفكرية وثقافية موضوعية بعيدة كل البعد عن نظرية المؤامرة.

بداية، يجب التفريق بين أنساق كثيرة للعولمة، فهناك سعي الشركات التجارية الكبرى العابرة للقارات إلى السيطرة على أسواق العالم، والتحكم بمجريات وموارد ومداخيل اقتصادها، بما يسمى بالعولمة الاقتصادية. وذلك لنشر ثقافة الماركة العالمية المسجلة، أملاً في توحيد ذائقة الإنسان المستهلك حيثما كان، وربطه بعجلة استهلاك يومي دائر، وبعلامات وماركات ومذاقات تجارية بعينها، ولا يمكن بأي حال من الأحوال، مقارنة هذا بما يُسمى بالعولمة الثقافية.

إن العولمة التي انتشرت بشكل سرطاني عبر محركات ومواقع شبكة الإنترنت، ربما كان أحد أهم مقومات نجاحها، كونها أتاحت الفرصة أمام جميع شعوب العالم، للوصول إلى المعلومة الفكرية والعلمية والثقافية والفنية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والرياضية، بمختلف لغات العالم الحية، مما جعل منها بحق نافذة العالم الأوسع. وهي نافذة تقدم زادها المذهل والعجيب والمتطور والمتشعّب، في أي لحظة، لشعوب العالم النامي أو المتأخر أو الثالث أو الرابع، بالتساوي مع تقديمه لشعوب العالم المتقدم.

لا يمكن النظر إلى العولمة بوصفها كياناً مادياً محدداً، ينبعث من جهة أو مكان واحد، ويتحكم به، ويشكل عوالمه مجموعة محددة من البشر. وأن فهماً ساذجاً ومغلوطاً وخاطئاً كهذا، قد يجر البعض إلى الاعتقاد والقول إن العولمة تهدف إلى اختزال العالم، وتسعى إلى هيمنة نموذج ثقافي واحد، عامدة إلى نزع الخصوصية الثقافية عن المجتمعات. وأن طرحاً كهذا يصور العولمة بصورة بعيدة كل البعد عن الواقع الثقافي الإنساني المعاش.

لا أحد ينكر أننا نعيش في عالم صغير، وأن ثورة المعلومات والاتصالات جعلت منه بحق قرية كونية، لكن هذا لا يعني التنازل عن الهوية القومية، ولا يعني نبذ الأصالة المستنيرة، ولا يعني التسليم للآخر لكونه يمتلك وسائل إنتاج المعرفة، ويتحكم بها، كما أن نظرة سريعة على عالم الإنترنت يظهر بطلان مثل هذا الفهم، فهناك آلاف المواقع التي تقدم محتواها القطري والفئوي والشخصي الخاص، بالصورة التي تريد، ووفق رؤاها وقناعاتها، وأن هذه المواقع متاحة للجميع، جنباً إلى جنب مع مواقع الآخر، أياً كان هذا الآخر.

لقد غدا العالم سوقاً كونية فكرية وثقافية وفنية، الجميع يعرض بضاعته، وللجميع الحق في الاقتراب من هذه البضاعة، وتفحصها والتمعّن فيها، وبقدر ما كانت هذه البضاعة الفكرية الثقافية والفنية مقنعة ومتقنة في جنسها بقدر ما كان إعجاب الآخر بها، واحترامه لها.

العولمة ليست كلها خيراً، لكن القول فقط بشرورها، يعني السكوت عن واقع إنساني بات من المستحيل العيش من دونه، وإلا عدنا إلى مقولة النعامة التي تدفن رأسها في التراب.