عاطف الطيب ابن بار للوطن... و ابن موت

نشر في 30-06-2008
آخر تحديث 30-06-2008 | 00:00
 محمد بدر الدين

ما زلت أتذكر مداخلة المخرج الكبير صلاح أبو سيف في ندوة، أعتز بأني شاركته فيها، حول مشوار المخرج عاطف الطيب في الذكرى الأولى لرحيله، إذ قدمت رؤيتي كناقد لسينما الطيب، خصوصاً بعدها الاجتماعي، وقدم أبو سيف كسينمائي رائد عملاق رؤيته لسينما الطيب، كذلك تحدث عن ذكرياته كأستاذ درّس دفعة في المعهد العالي للسينما، كان عاطف الطيب أحد أفرادها، وأكثرهم هدوءاً، على حد تعبير مخرجنا: «كدنا لا نشعر به لفرط هدوئه ودماثته معظم فترة الدراسة، لكنه حينما أخرج أفلامه وقدم لنا رؤيته ونظرته للأمور ومواضيعه وأسلوبه، فوجئنا جميعاً به، هو أقرب المخرجين إلي بالنسبة الى نظرتي الى السينما وطريقة المعالجة والاهتمامات والروح.... أجد السينما التي قدمها الطيب كأنها امتداد ومتابعة للسينما التي قدمتها».

هذا ما قاله الرائد السينمائي صلاح أبو سيف تقييماً وتحليلاً لسينما الطيب ولدوره مع رفاقه السينمائيين في موجة الثمانينات من القرن العشرين، المميزة بل الفذة، ولا غرابة في ما ذكره أبو سيف، فكل من السينما التي أبدعها أبو سيف والسينما التي أنجزها من بعده الطيب، تنتمي إلى الواقعية النقدية بالمفهوم المذهبي الدقيق لها، وتعد أفلام كليهما تحليلاً وسجلاً، ولا نقول تسجيلاً أو نقلاً، للهموم والآمال والهواجس والأشواق للطبقات الشعبية في مصر، وبخاصة الطبقة الوسطى بشرائحها، أبو سيف ابتداء من الخمسينات، والطيب منذ بداية الثمانينات.

في عام 1983 قدم عاطف الطيب، الذي نحتفي بذكراه السنوية هذه الأيام، رائعته وفيلمه الثاني «سواق الأتوبيس»، كتبه بشير الديك، ورصد من خلاله التناقض الفادح والمتفاقم الذي شهده المجتمع المصري في تلك الفترة، بين الطبقة الشعبية الأصيلة المنتجة ممثلة في حسن (نور الشريف) ووالده صاحب ورشة الأخشاب (عماد حمدي)، والنوع الجديد الذي بدأ بالاستشراء كالوباء في زمن ما سمي بالانفتاح، وهو الاسم المستعار لعودة الرأسمالية، لكن في أدنى صورها وأكثرها طفيلية ونزوعاً إلى النهب و«الشفط» من دون عمل أو إنتاج حقيقي.

تلك التغيرات الاجتماعية والاقتصادية نتاج التغيرات السياسية، المؤثرة ثقافياً وأخلاقياً، رصدها الطيب في مجمل أفلامه التالية، فمنذ «التخشيبة» (1984) فيلمه التالي مباشرة من تأليف وحيد حامد وبطولة نبيلة عبيد وأحمد زكي، ثم «ملف في الآداب» للمؤلف نفسه بطولة مديحة كامل وصلاح السعدني وفريد شوقي، و»الحب فوق هضبة الهرم» (1986) عن قصة لنجيب محفوظ بطولة أحمد زكي وآثار الحكيم، ونحن ننظر إلى تلك الأفلام إلى جانب «البريء» (1986) تأليف وحيد حامد وبطولة أحمد زكي، باعتبارها ثلاثية الذروة في مسيرة سينما الطيب، الذي بدا كأنه في سباق مع الزمن، لينجز أكبر قدر من الأفلام في حيز قليل من الوقت، هو عمره المتبقي. كان يشعر بأن رحلته قصيرة كعمر الزهور التي تمنح الشذا وتنشر الجمال ولا تطيل المكوث وبأنه «ابن موت» حقاً.

من أبرز أفلام عاطف الطيب التالية الفيلم الوطني القومي «ناجي العلي» عن الرسام الفلسطيني العبقري الشجاع، الذي يعتبر قطعة حقيقية من ضمير الحركة الوطنية الفلسطينية والعربية في القرن العشرين، «الهروب» عن رائعة «اللص والكلاب» من أدب نجيب محفوظ بمعالجة سينمائية متميزة وبناء درامي متماسك، كان التميز لازماً، إذ سبق للسينما المصرية أن قدمت الرواية في فيلم بارز، «قلب الليل» عن رواية ذات تأمل فلسفي عميق لمحفوظ أيضاً.

وإذا كان الطيب بدأ مسيرته السينمائية (البداية الحقيقية) بفيلمه الثاني «سواق الأتوبيس»، فقد ختمها (الخاتمة الحقيقية) بفيلمه قبل الأخير «ليلة ساخنة» عن سواق التاكسي، جسد نور الشريف دور السائقَين وكان فيهما في أنضج حالاته.

كم كان عاطف الطيب ثاقب الرؤية، باراً للوطن، قدم أفلامه بمنهج واقعي بسيط، يتلقاه أبناء الوطن ويستوعبونه ويستمتعون به، لكن من دون تبسيط أو إخلال، بل ببساطة إلى جانب العمق، وبجمال نابع من الصدق.

back to top