لم يكن لحادث إطلاق النار على «المعلم غالي» أي بعد طائفي، لكنه كان تعبيرا عن «أنفة» إبراهيم باشا، ولو كان الموظف الذي عارضه مسلما للقي المصير نفسه، حيث إن «إبراهيم باشا» لم يكن أقل إنصافا للمسيحيين من أبيه. وكنوع من الترضية، أسند «محمد علي» منصب مدير الحسابات إلى «باسيلوس» ابن «المعلم غالي» ومنحه رتبة «بك» وهو أول قبطي في التاريخ يحصل على هذه الرتبة.

Ad

بعد ذلك واصل «محمد علي» منح رتبة «البكوية» للأقباط، كما عين بعضهم حكاما للأقاليم، لتصبح لهم ـ وللمرة الأولى ـ سلطات تنفيذية واسعة، ومنهم: «بطرس أغا أرمانيوس» الذي عينه «محمد علي» مأموراً لمركز «وادي برديس» الممتد من القسم الجنوبي من مديرية جرجا، إلى القسم الشمالي من مديرية قنا. و»فرج أغا ميخائيل» حاكماً لمركز دير مواس. و»ميخائيل أغا عبده» لمركز الفشن ببني سويف. و»تكلا سيداروس» لبهجورة. و»رزق أغا» و»أنطوان أبو طاقية» للشرقية. و»مكرم أغا» لشرق أطفيح.

هذا على صعيد «الحكم المحلي» كما نسميه اليوم، لكن الأقباط شغلوا أيضا مناصب أرفع على مستوى الحكومة المركزية، ومنهم «حنا‏ ‏المنقبادي‏» الذي عين ‏سكرتيرا‏ ‏لمديرية‏ ‏عموم‏ ‏قبلي‏, و»المعلم وهبة إبراهيم» الذي عين كبيرا لكتبة الديوان، كما عين «محمد علي» في ديوانه كتبة أقباطاً منهم: ‏»جرجس‏ ‏الطويل‏» ‏وأخوه‏ «‏حنا»‏‏ ‏و»منقريوس‏ ‏البتانوني»‏ ‏و»إبراهيم‏ ‏نخلة» الذي ترقى ليصبح كبيرا للكتبة خلفا للمعلم وهبة.‏

يرى البعض أن تقريب «محمد علي» للمسيحيين يرجع ـ فحسب أو في المقام الأول ـ إلى رغبته في الاستعانة بهم بوصفهم «أقلية» لا شوكة لها، للسيطرة على «الأغلبية»، وأيضا لكونهم أبناء دين يمثل أقلية داخل السلطنة العثمانية التي كان ـ في نهاية المطاف ـ أحد ولاتها، حتى وإن كان حاكما لولاية واسعة تتمتع باستقلال ذاتي. وهي رؤية مرجوحة من وجهين أساسيين:

الأول: أن العلاقة بين «محمد علي» و»الأغلبية المسلمة» كانت على خير ما يرام، ويكفي أن مشايخ المسلمين وأشرافهم، بقيادة «السيد عمر مكرم» نقيب الأشراف، هم من نادوا به والياً على مصر، ولم يبالوا في هذا السبيل بإظهار التحدي للسلطان العثماني. كما أثبت هؤلاء المشايخ ولاء للباشا طوال الوقت، إذ وقفوا إلى جواره دائما، واستطاعوا أن يكفوه شر كثير من المكائد، وأن يعينوه في كثير مما دبر.

والثاني: أن استعانة «محمد علي» بالأقباط في مناصب الدولة العليا، لم تكن مجرد «عمل سياسي» لشراء ولائهم، لكنها جاءت في إطار رؤية اجتماعية عامة وإصلاحات شاملة أعادت تنظيم مختلف جوانب الحياة، حيث أذن لرؤساء الطوائف المسيحية بإقامة القداس علنا، وأذن لهم ببناء وتجديد الأديرة والكنائس ودق النواقيس، وألغى «محمد علي» قيود الزي مع ما ألغي من قيود كانت مفروضة على المسيحيين، فلم يعودوا مجبرين على الالتزام باللونين الأزرق والأسود لملابسهم، وصار بوسعهم لبس العمائم البيضاء إن أرادوا، كما لم يعودوا ملزمين بتعليق صليب في رقابهم.

كذلك فقد سمح «محمد علي» للمسيحيين بركوب البغال والخيول, ولم يكن مصرحا لهم قبل هذا بأكثر من ركوب الحمير. وسمح لهم أيضاً بحمل السلاح، وذلك منذ العام 1814، حين تمردت حامية القاهرة فأغلق المسيحيون أبوابهم واحتموا بدورهم خوفا مما يمكن أن يحدث لهم وسط هذا الهرج وهم عزل، فأمدهم «محمد علي» بالبنادق والبارود وأمنهم على أرواحهم ومنازلهم فضمن ولاءهم، وفي الوقت نفسه اتخذ منهم صفا ثانيا يمكنه الاعتماد عليه في مواجهة التمردات التي كانت ـ وقت أن اتخذ هذا القرار ـ تطل برأسها. ومقابل ميزة السماح بحمل السلاح، انضم المسيحيون إلى الجيش جنودا.

ولـلمؤرخ «عبد الرحمن الرافعي» التفاتة مهمة تشرح دوافع هذه المعاملة المتميزة التي منحها «محمد علي» للمسيحيين، إذ يقول إن «محمد علي» أدرك تأثير «العامل القومي» الذي غفل عنه خصومه من المماليك والعثمانيين، هذا العامل الذي جعله يحسن معاملة المصريين ـ عموما، ومنهم المسيحيون ـ في بلادهم، في موقف يتفق مع رغبة «محمد علي» في إقامة دولة قاعدتها مصر من جهة، ويتفق مع ما ألفه من معاملة قوامها التسامح بين أبناء الأعراق والأديان المختلفة في مسقط رأسه «قولة» من جهة أخرى، وهي معاملة صبغت حياة «محمد علي» بصبغتها، على النحو الذي يصفه «جورجي زيدان» في جانبه الديني قائلا إن الباشا «كان متمسكا بالإسلام مع احترام التعاليم الأخرى، ولا سيما التعاليم المسيحية، فكان يقرب أصحابها منه، ويعهد إليهم بأهم أعماله».

وثمة موقف كبير الدلالة على تسامح «محمد علي» الديني، إذ «اتفق في سنة 1825 أن النيل شح، وأخذت مياهه في الهبوط منذ شهر أغسطس، فأمر محمد علي بإقامة صلاة الاستسقاء، ودعا إليها أحبار جميع الأديان والمذاهب، قائلا: إنها تكون مصيبة كبرى إن لم يوجد بين جميع هذه الأديان دين جيد واحد»!

لكن كل هذا لا يفسرالسؤال الذى بدأنا به حول سبب وجود صليب ولا أخوية لمحمد علي، فمن أين جاء هذا اللقب العجيب؟

الإجابة ـ على أية حال ـ ربما نجدها في ورقة مطوية توشك ألا تلفت نظر أحد، يقول فيها «إلياس الأيوبي» إن شهرة جهود وإنجازات محمد علي «جعلت أكاديميات أوروبا ومعاهدها وأوساطها الأدبية تكبر من شأنه، وتتحدث بآلائه، فرأت الأكاديميات الألمانية، قبل الجميع، أن تتشرف بإدماجه في عضوية هيئاتها، فبعثت إليه بالبراءات المنبئة بذلك، والتمست ألا يبخل عليها بإنالتها الفخر الذي كانت راغبة فيه، وما لبثت باقي الأكاديميات الأوروبية المهمة أن اقتدت بها».

وهي فقرة تجعلنا نتساءل: هل كانت «أخوية محمد علي» أو «الصليب من طبقة محمد علي» مجرد لقب ذي دلالة اجتماعية وسياسية وإن كان ديني المنشأ؟ لقب منحته لـ»محمد علي» واحدة من هذه الهيئات التي تسابقت إلى منحه ألقابها وعضوياتها؟ الأمر وارد من ناحية نظرية بحتة، وإن كان غير متواتر عمليا، ولو صح هذا التفسير فإنه سيضعنا أمام حالة فريدة، كما أنه لا يقدم حلا للغز تحول ملكة وعدة أميرات ينتمين لنهايات حكم أسرة «محمد علي» عن الإسلام! والسؤال الثاني: هل كان هذا التحول تعبيرا عن تراكمات طويلة للأثر الأوروبي داخل الأسرة العلوية، ذلك الأثر الذي بدأ مع رأس هذه الأسرة، واستمر بعد ذلك؟ يقول «إلياس الأيوبي» إن «إبراهيم باشا» نجل «محمد علي» الأكبر ووريثه الأول، عاد من حروبه في «المورة» وقد «سبى كثيرا من أهلها، لا سيما النساء والأطفال، وأرسلهم إلى مصر، حيث ملأت الرقيقات الروميات دور الحريم، وملأ الغلمان الأروام عرصات القصور. وكان ذلك من حسن حظهم؛ لأن كثيرا من باشاواتنا اليوم (يقصد وقت صدور كتابه في 1921 م) وليس من أقلهم شأنا ولا أحطهم قدرا، ما هم إلا سلالة أولئك الغلمان الأروام، بعد أن اعتنقوا الإسلام، وتعلموا تعاليمه، وتشربوا مبادئه».

ونقف مع «الأيوبي» في قوله «تشربوا مبادئه» متسائلين: هل تشربوا مبادئ الإسلام فعلا، وتشربوها خالصة، أم ظل في النفس من أثر النشأة المسيحية الأولى ما تراكم جيلا بعد جيل ومؤثرا بعد مؤثر حتى أفصح عن نفسه في نهاية المطاف؟

لقد كان تحول مصر من ولاية تنتمي للقرون الوسطى إلى دولة حديثة سريعا وحادا، دولة حصل المسيحيون في ظلها على حق ركوب البغال للمرة الأولى منذ قرون، ثم، وبعد خمسة عقود فقط، أصبحوا أعضاء في أول برلمان مصري، وذلك في العام 1866 مع‏ ‏نشوء‏ ‏أول‏ ‏مجلس‏ ‏نيابي‏ ‏مصري على يد «الخديو إسماعيل»، إذ ‏حصل المصريون‏ ‏عموما‏ ‏بغير‏ ‏تفريق‏ ‏بسبب‏ ‏الدين‏ ‏على‏ ‏حق‏ ‏الترشيح‏ ‏لعضوية‏ ‏المجلس‏ ـ كما يقول المستشار «طارق البشري» ـ ‏وتم الرجوع‏ ‏في‏ ‏تحديد‏ ‏المصرية‏ ‏إلى واقعة‏ ‏الميلاد‏ ‏وحدها‏، وهكذا وقف «نوبار باشا» ‏ليقول: عندنا‏ ‏أقباط‏ ‏أيضا‏ ‏من‏ ‏المنتخبين‏ ‏وقد‏ ‏فتحنا‏ ‏الأبواب‏ ‏للمسلمين‏ ‏والأقباط‏ ‏بدون‏ ‏تمييز‏.

و»إسماعيل» هو حفيد «محمد علي» ـ ابن «إبراهيم باشا» ـ الذي يوشك المؤرخون أن يجمعوا على أنه صاحب البصمة المميزة الثانية في تاريخ مصر والأسرة العلوية بعد جده، وهو أيضا الحاكم المفتون بأوروبا، المقتدي بها في إصلاحاته المدنية، والذي قال ـ مفاخرا ـ إن بلادي لم تعد تنتمي إلى أفريقيا، بعد أن أصبحت قطعة من أوروبا.

ومما يلفت النظرأن «إسماعيل»، بعد أن عزله السلطان عبد الحميد الثاني بضغط من انجلترا وفرنسا فى يونيو 1879، اختار «نابولي» في إيطاليا محطا لرحاله، وهو اختيار غريب، فلا نابولي هي «باريس» التي عشقها «إسماعيل» وكانت بينه وبين إمبراطورها السابق ـ وراعيه ـ «نابليون الثالث» وزوجته «أوجيني» ما هو أكثر من الصداقة المتينة، ولا هي «لندن» عاصمة السلطة والنفوذ في مصر، ولا هي «الأستانة» عاصمة الدولة العثمانية، التي قضى فيها ـ فيما بعد ـ أيامه الأخيرة. والأغرب أن «نابولي» هي «مقبرة الأفيال» التي اتجه إليها منفيان من أسرة «محمد علي» بعد أفول شمسهما، ملكان من الأسرة العلوية اختارا منفاهما «نابولي» القريبة من «الفاتيكان» كعبة «الكاثوليكية» التي تحولت إليها الملكة «نازلي» وغيرها من أميرات الأسرة العلوية، ولم يتحولن إلى «الأرثوذكسية» المذهب الشائع بين مسيحيي مصر، ما يقطع بأن تحولهن لم يأت بناء على تأثرهم بعوامل من البيئة المصرية.

إلى «نابولي» ذهب «إسماعيل»، وإليها أيضا ذهب «فاروق» بعد أن تنازل عن العرش فى 26 من يوليو (تموز) 1952، ومنها عاد بعد وفاته في 1965 ليدفن في مسجد الرفاعي بمصر.