عبده مستاء

نشر في 30-05-2008
آخر تحديث 30-05-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي منذ أيام كنت في زيارة قصيرة للقاهرة والتقيت فيها بكثير من المصريين من فئات وطبقات مختلفة، وكان القاسم المشترك بينهم هو حالة استياء عامة من الأوضاع حولهم. بعض الاستياء يعكس حالة إحباط حقيقية، وبعضه الآخر مبالغ فيه. سألني أحد الأصدقاء، بعد واحدة من تلك اللقاءات، كيف ترى حال المصريين اليوم وأنت الرجل القادم من بعيد، والذي قد يرى الأمور ربما بشكل أوضح، «لأنك ترى الغابة من فوق دونما غرق في تفاصيل الأشجار مثلنا»؟

حال المصريين اليوم تذكرني بتلك الشخصية الكاريكاتيرية التي اخترعها اللامعان أحمد رجب ومصطفى حسين، والمعروفة بـ«عبده مشتاق». فـ«عبده» ينتظر دائما قرار توزيره ويجلس إلى جانب التليفون منتظراً مكالمة تبشره بالوزارة. فقال صاحبي: نعم! وبحلق في وجهي ولسان حاله يقول ما دخل «عبده مشتاق» في سؤالي عن رأيه بأحوال المصريين؟

باختصار، لقد انتقل المصريون اليوم من مرحلة «عبده مشتاق» إلى مرحلة «عبده مستاء»، قلت لصاحبي. فمنذ مجيئي إلى القاهرة في أعقاب منتدى «دافوس» في شرم الشيخ الأسبوع الماضي، والكلمة المشتركة التي أسمعها في مصر في التاكسي وعلى الشاشات، وفي «مانشيتات» الصحف، «مستاء». استغربت كثيراً من سائق التاكسي الذي أقلني من المطار، بعد أن حكى لي قصة تقطع القلب، لا يبقى أمامك بعد سماعها سوى أن تعطيه كل ما تملك. قصة لا أعرف هل أخذها السائق من كتاب خالد الخميسي، « تاكسي/ حواديت المشاوير»، أو أن الخميسي قد أخذها منه. وبعد الدراما الشخصية المحزنة فعلاً، قال السائق بصوت قوي وواضح، إنه مستاء من خطاب الرئيس بوش. قالها وكأنه يكتب «المانشيت» الرئيسي لصحيفة حكومية!

بعدها ذهبت إلى عشاء في أحد الأماكن الراقية، سمعت نفس عبارة «أنا مستاء من خطاب بوش في شرم السيخ»، بالطريقة نفسها التي قالها سائق التاكسي. رجل آخر، بدا مهما، قال لي «لقد عبرت للتلفزيون عن استيائي».

وانتهينا من بوش ومن خطابه، فإذا بأحد الصحفيين يعلن بأنه «مستاء من سياستنا في القرن الأفريقي».. وأنه تحدث إلى أحمد أبو الغيط، هكذا قال، استخدم اسم الوزير «حاف» من دون ألقاب للإيحاء بالألفة بينهما. تحدث صاحبنا إلى أحمد أبو الغيط، وما هي لحظة حتى بدأت المزايدات، إذ ازورت عيون أحد الجالسين ثم اشرأب قائلا: «الريس كلمني في الموضوع».. لا نعرف من الذي حدثه هل هو رئيس وردية عمال، أو رئيسه في العمل، أو رئيس الجمهورية ذاته؟ ولكن بما أن الحديث على مستوى استياء من السياسات المصرية في القرن الأفريقي، فلا بد أن نفترض بأن مَن حدثه هو رئيس الجمهورية... وهكذا خمن الحاضرون. اقتربت من صاحبنا المستاء، فهو رجل قريب من الرئيس، ومن جاور السعيد يسعد. ورن تليفونه السامسونج الناعم، فأجاب: «أفندم». وساد السكون والترقب في المكان... فهل الرئيس هو المتحدث في هذه المرة أيضاً؟ وبما أنني أجاور السعيد في الجلسة، فقد سمعت الصوت القادم عبر التليفون وهو يقول بحسم: «متنساس العيش، الولاد حياكلوك الصبح لو ماعديتش ع الفرن»... أو هكذا خيل إلي... وفجأة، وبعد التليفون، انتقل صاحبنا من موضوع القرن الأفريقي إلى مشكلة رغيف العيش في مصر. وتبارى الجالسون في التعبير عن مدى استيائهم من مشكلة الرغيف، وتخلى بعضهم عن أقنعته الاجتماعية الكاذبة، وكان الاستياء حقيقياً هذه المرة.

قطع أحدهم لحظة الجد هذه عندما قال «أنا مستاء من موقف مفيد شهاب»، الذي وعد بإنهاء حالة الطوارئ في نهاية مايو 2008، وها هو مايو يأتي وواضح أن الحكومة تنوي تمديد القانون. استياء كان في محله.

كانت في ركن المكان مجموعة مهمومة بالهم العام يمكن تسميتها بـ«المستائين الجدد» من تدهور الوضع الإقليمي من الوضع في لبنان وفي فلسطين. وخرجت من المكان وانتظرت التاكسي، ودردشت قليلاً مع بواب العمارة الذي فاجأني بأنه مستاء من إيران، ليس لأنها تتدخل في شؤون لبنان، ولكن لأنها «على ما يبدو سترضخ للأمريكيين وتوقف تخصيب اليوارنيوم».

شخصية «عبده مستاء»، كما أعتقد، ليست عميقة في النفس المصرية، هي نوع من الشياكة الاجتماعية في مصر الآن. قد تكون راكباً سيارة فارهة، وتحتسي القهوة في أفخم فنادق القاهرة، ومع ذلك لا بد أن تعبر عن استيائك من الوضع، لزوم اكتمال الدور والشياكة.

أخيراً، حالة الاستياء في مصر أوضح ما تكون على وجوه من يتسيدون الشاشات المصرية... فهم غاضبون ومستاؤون جداً، حتى يكاد الواحد منهم أو الواحدة منهن أن «يفط» عليك من الشاشة ممسكاً برقبتك ويهزك هزاً لأنك لم تشاركه مشاعره تجاه القضايا الدولية الكبرى.

انتقل العالم الغربي من عالم الحداثة إلى ما بعد الحداثة، والمصريون اليوم ينتقلون من حالة «عبده مشتاق» إلى حالة «عبده مستاء.»

*رئيس برنامج الشرق الأوسط بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية- IISS

back to top