مثلما فعل دستور الكويت في عام 1962 فأفرد باباً كاملاً للمقومات الأساسية للمجتمع شمل من بين ما شمله، الخدمات الاجتماعية في المواد 10 و11 و15، فنصَّت المادة (10) على أن «ترعى الدولة النشء وتحميه من الاستغلال وتقيه الإهمال الأدبي والجسماني والروحي».
ونصت المادة (11) على أن «تكفل الدولة المعونة للمواطنين في حالة الشيخوخة أو المرض أو العجز عن العمل. كما توفر لهم خدمات التأمين الاجتماعي والمعونة الاجتماعية والرعاية الصحية».كما نصت المادة (15) على أن» تعنى الدولة بالصحة العامة وبوسائل الوقاية والعلاج من الأمراض والأوبئة».وقد انتهج دستور مصر عام 1971 النهج ذاته، فنصَّت المادة (16) على كفالة الدولة للخدمات الثقافية والاجتماعية والصحية ونصت المادة (17) على كفالة الدولة لخدمات التأمين الاجتماعي والصحي.ومن ثم وترتيباً على ذلك أبقت الدولة فى مصر على الهيئة العامة للتأمين الصحي، والتي أنشئت في عام 1964، لتقديم الخدمات الصحية للعاملين في الحكومة ووحدات الإدارة المحلية والهيئات العامة والمؤسسات العامة، ثم ما لبث أن امتدت خدمات الهيئة إلى الأرامل في عام 1981 وإلى جميع الطلاب في المدارس والجامعات في عام 1992، وإلى الأطفال في عام 1997، بالرغم من بداية عصر الانفتاح، والبدء في التراجع عن التطبيق الاشتراكي في مصر.وقبل عام 1964 كانت هناك خطوات محدودة لتطبيق صور الرعاية الطبية التأمينية إلى أن صدر القانون رقم 63 لسنة 1964 بإصدار قانون التأمينات الاجتماعية الذي ينص على تطبيق التأمين الصحي على العاملين في القطاعين العام والخاص الخاضعين لنظام التأمين الاجتماعي، وأناط هذا القانون بالهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية في ذلك الوقت تقديم التأمين الصحي من خلالها.ثم صدر القانون رقم 75 لسنة 1964 إنشاء الهيئة العامة للتأمين الصحي للعاملين بالحكومة ووحدات الإدارة المحلية والهيئات والمؤسسات العامة. إلا أن التعديلات الدستورية الأخيرة في مصر، التي قنَّنت النظام الاقتصادي الحر، كعنصر أساسي في المقومات الاقتصادية للمجتمع، قد فتحت الباب على مصراعيه أمام رأس المال الخاص للمشاركة في تقديم الخدمات الأساسية والضرورية للمواطن، إلا أن القطاع الخاص لم يرتضِ الاكتفاء بالمشاركة وحدها، بل ذهب إلى أبعد من ذلك مدى في السعي إلى الانفراد بتقديم الرعاية الصحية لطبقات المجتمع كافة، ومنها فئة العاملين بالحكومة من خلال قرار استصدره وزير الصحة من مجلس الوزراء، منذ عام أو يزيد، بإنشاء شركة قابضة تحل محل الهيئة العامة للتأمين الصحي، سماها القرار «الشركة المصرية القابضة للرعاية الصحية»، تنقل إليها أصول المستشفيات والعيادات كافة التابعة للهيئة العامة للتأمين الصحي.ليصبح لهذه الشركة، ومن خلال الشركات التابعة لها تقديم الرعاية الطبية بأنواعها كافة لمنتفعي التأمين الصحي وغيرهم من المرضى.الأمر الذي لجأ معه بعض المواطنين إلى الطعن في هذا القرار، أمام مجلس الدولة (محكمة القضاء الإداري) بطلب إلغائه لمخالفة القرار للدستور والاتفاقيات الدولية، فضلاً عن مخالفته لقانون أصدرته الدولة في عام 1991، اقتصر على تخويل وزير الصحة حق إنشاء الشركات القابضة، ولم يمنحه الحق في تحويل إحدى الهيئات العامة إلى شركة قابضة، وتحويل أموالها العامة إلى أموال خاصة، وهو الأمر الذي لا تملكه سوى السلطة التشريعية.وقد أصدرت محكمة القضاء الإداري، حكمها في هذا الطعن بوقف تنفيذ القرار المطعون، بصفة مستعجلة إلى أن تفصل في موضوع الطعن بإلغائه، على سند من الأسباب التي أرست فيها بعض المبادئ الدولية والدستورية والاجتماعية في موضوع الرعاية الصحية، سوف تفرد لها مقالاً قادماً بإذن الله.ولأهمية هذا الحكم، والصدى الذي أحدثه في المجتمع المصري أمام تدني الخدمات الصحية التي تقدمها المستشفيات الخاصة وغلو أسعارها غلواً شديداً ، وتحول هذه الخدمات إلى تجارة وتحول هذه التجارة إلى جرائم تكسب غير مشروع، فقد عاد الحديث يتردد وبقوة عن التزامات الدولة الدستورية في كفالة أمن المواطن الصحي والغذائي والتعليمي، وأنه لا يجوز تحت شعار الخصخصة، أن تتخلى الدولة عن مسؤولياتها الدستورية في كفالة الخدمات الأساسية والضرورية للمواطن، وأن تطويرها وتنميتها يكون من خلال الأخذ بأساليب الإدارة الحديثة للارتقاء بهذه الخدمات، ويثير هذا الحكم موضوع الخصخصة كظاهرة عالمية، نتناولها في مقال قادم بإذن الله.
مقالات
ما قل ودل: القضاء يرفض خصخصة الرعاية الصحية في مصر
23-02-2009