ظلت المبالغ الهائلة التي تُصرف على الانتخابات الرئاسية الأميركية محل انتقاد الكثيرين من المعلقين في الشرق الأوسط. وكانت مجمل هذه التعليقات تنحصر في أن الأكثر غنى في أميركا هو الذي لديه فرصة نجاح في الانتخابات الأميركية أكثر ممَن يملك مالاً أقل. وخلُص هؤلاء المعلقون إلى أن منصب الرئاسة الأميركية يُشترى بالمال، لا بالخبرة والنزاهة والشفافية والقيادة الحكيمة... إلخ. سيما أنه تعاقب على رئاسة البيت الأبيض في السنوات الأخيرة ثريان من عائلتين غنيتين: آل كندي، وآل بوش. ولكن واقع الأمر ليس كذلك.
مال الانتخابات الأميركيةفالمرشحان للرئاسة الأميركية، ليس من الضروري أن يكونا من الأغنياء ذوي الغني الفاحش. فالمرشح لا يعتمد على ما يملك من مال لتمويل حملته الانتخابية، بقدر ما يعتمد على تبرعات أعضاء حزبه، وتبرعات رجال المال والأعمال، والأغنياء من كبار المحامين «أكبر المتبرعين»، والأطباء، والعاملين في السينما، والإعلام، وخلاف ذلك. ولهذه التبرعات كلها قيود وحدود وقوانين صارمة، وضعها القانون لكي لا تطغى فئة على الأخرى بمالها، ثم بفرض آرائها على المرشح. بالتأكيد هناك مخالفات وهناك انتهاكات واحتيالات على هذه القوانين، ولكنها تبقى محصورة في الحد الأدنى حفاظاً على شفافية وديمقراطية هذه الانتخابات، في بلد يُعدُّ في نظر العالم الأمثولة الكريمة المحتذاة للديمقراطية، رغم كل ما تُقذف به الديمقراطية الأميركية من سهام حادة وانتقادات من الشرق والغرب.مليار دولار ميزانية الانتخابات!تُعتبر الانتخابات الرئاسية الأميركية من أكثر الانتخابات في العالم تكلفة. ويقدر الخبراء تكلفة الانتخابات الرئاسية بمليار دولار. وبأن المرشح الديمقراطي باراك أوباما سيكون لديه هذا المبلغ حسب تأكيد المعلق السياسي كيفين دروبو، وحسب أستاذ السياسة العامة في جامعة هارفارد ريتشارد باركر، الذي يقول: «سنرى هذا العام بسهولة، أول سباق رئاسي يتكلف مليار دولار». وستأتي هذه الأموال من خلال التبرعات الهائلة التي انكبّت على باراك أوباماً من وول ستريت والبنوك الاستثمارية، وكبار المتبرعين من المؤسسات المالية الكبرى كمؤسسة «مورغان ستانلي» و«ليمان براذرز» وغيرهما من المؤسسات المالية الضخمة، بالإضافة إلى نسبة مئوية معينة تقدمها الحكومة الفدرالية إلى كل مرشح (تنازل أوباما عن المنحة الفدرالية وهو أول مرشح يفعل ذلك). وسيكون لدى منافس أوباما الجمهوري جون ماكين هذا المقدار من المال الهائل.ولكن أوباما سيكون أكثر سرعة في جمع مبلغ ضخم من المال لأن المتبرعين لهيلاري كلينتون (جمعت كلينتون 215 مليون دولار لحملتها، من نيويورك فقط) سوف يصبون تبرعاتهم الآن على حملة أوباما، بعد أن انسحبت هيلاري كلينتون من السباق الانتخابي إلى الرئاسة. كما ستساهم تبرعات النساء والسود والأفراد من الأصول الأميركية اللاتينية في دعم أوباما مالياً باعتباره مرشح الحزب الليبرالي الديمقراطي، الذي يمنح الأقليات اهتماماً أكثر من مرشح الحزب الجمهوري التقليدي والمحافظ.ما هو مبرر صرف هذه المبالغ؟يتساءل بعضنا عن المبرر لصرف هذه المبالغ الضخمة على حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية.فهل هي لشراء أصوات الناخبين كما يتم في الشرق الأوسط؟هل هي لإقامة الولائم وتقديم الرشا للناخبين كما يتم في الشرق الأوسط؟ هل هي لرشوة اللجان القائمة على الانتخابات لتزوير الانتخابات كما يتم في الشرق الأوسط؟ هل لشراء وتعليق أكبر عدد من لافتات الشوارع ولصق أكبر عدد من صور المرشح على الجدران والأعمدة والأبواب والسيارات... إلخ؟وفي واقع الأمر، فإن المال الانتخابي الرئاسي لا يُصرف على أي وجه من هذه الوجوه، بل تكاد تكون هذه الوجوه بمجملها من المحرمات التي يمنعها قانون الانتخابات الرئاسية الأميركية.أوجه الصرف الهائل على الانتخاباتعملية الانتخابات الأميركية عملية معقدة للغاية، ولكنها منظمة تنظيماً علمياً دقيقاً. وقد أنشأت جامعة جورج واشنطن، معهداً لدراسة تمويل الحملات الانتخابية، أطلقت عليه «معهد تمويل الحملات الانتخابية» لتخريج من سيديرون غداً الماكينة الانتخابية. ولكننا نستطيع أن نذكر هنا بعض أوجه الصرف على هذه الانتخابات التي تستنزف مالاً كثيراً، ومنها:-1 تتم معظم رحلات وجولات المرشحين في الطائرة، لبعد المسافات بين خمسين ولاية يزورها المرشحون. وبعض المرشحين يستأجر طائرة خاصة طوال فترة الانتخابات تزود خصيصاً بتجهيزات خاصة للمرشحين.-2 يوظّف المرشحون طاقماً سياسياً وتنظيمياً وإعلامياً خبيراً وضخماً لتسيير حملاتهم الانتخابية، إضافة إلى طاقم للعلاقات العامة. وهؤلاء من الخبراء المكلفين مادياً، ومن ذوي الأجور المرتفعة جداً، لأنهم متخصصون، ولا يعملون إلا في مواسم الانتخابات.-3 يستأجر المرشحون صالات كبيرة وضخمة في الفنادق وفي الجامعات وخارجها، ومجهزة بأحدث الأجهزة اللازمة لإقامة المهرجانات الانتخابية. ويُحظر على المرشحين إقامة السرادقات الانتخابية في الأحياء والشوارع، كما يتم في الشرق الأوسط.-4 يلجأ المرشحون إلى الدعاية الانتخابية عبر الصحافة والتلفزيون والإذاعة ويمنع منعاً باتاً إلصاق صور المرشحين في الشوارع العامة وعلى جدران المحلات والمنازل كما يجري في الشرق الأوسط. وهذه الدعاية في الوسائل الثلاث المذكورة -وخصوصاً التلفزيون- تستنفد كثيراً من الأموال.-5 يخصص المرشحون جزءاً من ميزانية الانتخابات لأغراض طباعة المنشورات، وصور المرشحين، واللافتات البلاستيكية التي يحملها المؤيدون في المهرجانات الانتخابية. ويمنع منعاً باتاً تعليق هذه المطبوعات أو إلصاقها في أي مكان خارج قاعات المهرجانات الانتخابية.-6 كذلك تُخصص ميزانية معينة لرجال الأمن المستأجرين من شركات الحراسة الأمنية. والحراسة الأمنية لا تعني حراسة المرشحين فقط، ولكن حراسة العاملين مع المرشح في حملته الانتخابية كلهم، وحراسة الجمهور، وقاعات المهرجانات من اعتداءات المهووسين والحمقى، وما أكثرهم في أميركا.من هنا، يتضح لنا، أن أوجه الصرف المالي على الحملات الانتخابية لا تتمثل في الرشا، وشراء أصوات وذمة الناخبين والقيام بعمليات التزوير، ولكنها تتم لتشغيل الماكينة الانتخابية فقط، والتي باتت مكلفة جداً نتيجة لاتساع رقعة أميركا وانتشار الناخبين على مساحة واسعة في خمسين ولاية.* كاتب أردني
مقالات
هل البيت الأبيض للأغنياء فقط؟!
02-07-2008