المثقفون والمسألة الإسلامية 2 من 2
يبدو لنا أن تدارك إغفال الفكر الديني ومنح مزيد من الاهتمام لدراسة المعتقد الديني هو ما يسم الطور الجديد من الاهتمام بالشأن الإسلامي. قد يقترن التوجه هذا بالذروة الجديدة لصعود الإسلامية بعد 11 سبتمبر 2001 بعد ذروة سابقة ربما توافق عام 1979 (تواقتت فيه حسب فرِد هوليداي ثلاث حادثات أساسية: احتلال الحرم المكي من قبل جهيمان العتيبي وجماعته، الثورة الإيرانية، والتدخل السوفييتي في أفغانستان وبدء حرب «المجاهدين»؛ وأضيف من جهتي مجزرة «مدرسة المدفعية» في مدينة حلب السورية التي نفذها إسلاميون بحق عشرات من طلاب ضباط علويين، أي ممن يعتبرون طائفة إسلامية مهرطقة)، ورغم أن ما حدث في خريف 2001 مقترن بأحد التيارات الإسلامية الأشد تطرفاً، فإنه أطلق حركة اهتمام واسعة، في الغرب وعندنا، بالتعاليم الإسلامية وفكر الحركات الإسلامية وبتاريخ الاعتقاد الإسلامي.
على أن الطور الجديد ليس جديداً بالكامل، لقد انشغل أمثال نصر حامد أبو زيد ومحمد شحرور ومحمد أركون... على ما بينهم من فوارق في البنى الفكرية والاعتقادية الإسلامية، لكنهم يشكلون فئة ثالثة، قد يمكن وصفها بالإصلاحية الإسلامية، فهم يصدرون من داخل الإسلام (أبو زيد وشحرور على الأقل)، وإن كانوا لا يؤسسون انحيازاتهم الاجتماعية والسياسية والفكرية عليه، ولا يشتغلون عليه بأدوات مستمدة منه على نحو ما يفعل الإسلاميون. والإصلاحيون ملتزمون به قيمياً، وربما إيمانياً. ورغم أنهم يشتركون في نقد الإسلامية الحركية، فإنهم خارج النزاع التفسيري الذي تكلمنا عنه سابقا، وإن كانوا أقرب إلى المقاربة الأولى، الداخلية، عموماً. ربما يتسم الطور الجديد إذن بهيمنة مقاربة تشتغل على المتون والأفكار الإسلامية، لكن من دون أن يقتصر بالضرورة على إصلاحيين إسلاميين، فإذا تقرر عندنا أن الإسلام ذاته، أعني كتعاليم ونصوص، وليس الحركات الإسلامية وحدها، هو موضوع الطور البازغ، فقد يمكن التمييز بين مقاربتين فرعيتين: واحدة إصلاحية يكون الإسلام موضوعاً لها ومكوناً جوهرياً للذات الدارسة والمصلحة في الوقت نفسه؛ ومقاربة أخرى يكون الإسلام موضوعاً معرفياً لها من دون أن تلتزم به إيمانياً، وقد تندرج هذه تحت عنوان نقد الدين، النقد المعرفي والتاريخي الذي يتعامل مع المواد الدينية كما يتعامل مع أي مواد إنسانية أخرى. الأكيد على كل حال هو تقادم المقاربة التفسيرية وتراجع الاهتمام بها، وقد يعود ذلك لسببين متكاملين. من ناحية تطبّعت الظاهرة الإسلامية في مجتمعاتنا، وقل اليوم من يعتبرونها فضيحة تاريخية أو نبتاً شيطانياً غريباً، ينبغي نزع غرابته والاحتيال للتخلص منه. ومن ناحية ثانية، يبدو لنا أن الإسلامية ذاتها كفت عن الصعود، كقضية وكفاعل اجتماعي وسياسي، فلم تعد سؤالاً متحدياً. ولقد أخذ يظهر باطراد أن المقاربة الداخلية تبتر نفسها حين تتكتم على فقر وتخلف الفكر الإسلامي ونزوعه إلى القسر والتكفير، وتحفظه حيال الثقافة والحرية، وتمركزه حول ذاته واكتفائه بذاته وأنانيته وضيق أفقه الفكري والقيمي، بل وتراجع قدرته على تلبية الحاجات الروحية للمسلمين المؤمنين بالذات. وأن المقاربة الخارجية تفوت باستسهالها لرفض براني للأفكار والمعتقدات الدينية فرصة تطوير نقد ضارب للتعاليم والأفكار والممارسات الإسلامية، هذا فضلا عن أن ما قد ترشح من المقاربة هذه من سياسات عملية سبق أن فشلت عندنا وفي دول المعسكر الشيوعي السابق. وقد يكون لصعود الأفكار الليبرالية الذي ينبغي تمييزه عن الصعود العاصف والسريع والضحل لما سمي «ليبرالية جديدة» تزامنت مع الرد الأميركي على 11 سبتمبر، وبلغت ذروتها في بلداننا عند احتلال العراق، قد يكون له دور في التوجه أكثر نحو الاشتغال على الدين والفكر الديني، إما بصيغة الإصلاح الديني وإما بصيغة نقد الدين.والليبرالية التي نتحدث عنها هي أقرب إلى موقف ذهني منفتح وإلى إعلاء شأن الثقافة والتفكير المتحرر والنقدي على حساب السياسة والدين معاً. وإن كانت على خصومة مع تيارات سياسية ودينية، فإنها هي ذاتها ليست تياراً سياسياً، أو بالطبع دينياً، إنها ذهنية أو توجه ثقافي عام، قد تتشربه تيارات سياسية ودينية متعددة. ومعلوم أن الليبرالية العربية في طورها الأول، السابق للحرب العالمية الثانية، كانت خصبة ثقافياً وأكثر انفتاحاً ونقدية من تيارات الفكر والثقافة التي تلت، بدءا من خمسينيات القرن العشرين.وهكذا قد يلتقي تطبيع الإسلامية واستواؤها ظاهرة عادية مع انتشار ذهنية ليبرالية أكثر شغفاً بقضايا الفكر والثقافة والدين لنقل السؤال الإسلامي من البحث عن تفسير لصعود الإسلامية إلى نظر نقدي وإصلاحي في بنى التفكير والاعتقاد الإسلامي.لكن هل هناك بالفعل احتمال بأن نشهد في ثقافتنا نقداً للدين على نحو ما سبق أن شهدت الثقافة الغربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؟، وهل يحتمل أن نرى في العقود المقبلة تطبيعاً للنقد الديني يتلو تطبيع حضور الدين في الحياة العامة؟ والواقع أن بعض بوادر ذلك موجود منذ الآن ومرشح للاتساع بفضل شبكة الإنترنت. ربما يغلب اليوم ما قد نسميه النقد الخارجي أو النقد المطلق للدين، الذي يستصلح لنفسه أسلوب «الردح» والتجريح، لكن قد يكون ذلك طوراً أول يوافق ميلاً ردحياً وتكفيرياً عند الناشطين الإسلاميين. وربما ينفسح المجال ذات يوم غير بعيد لنقد متسق، أكثر جدية وعمقاً. على أنه من غير المستبعد أن يواجه النقد الديني بعنف رمزي وجسدي يفوق ما تعرض له ممثلو المقاربة الإصلاحية، مثل نصر حامد أبو زيد، أبرزهم. ختاماً، نميل إلى تصور أن تقدمنا في مرحلة ما بعد الاستقلال كان هشاً وخارجياً، لأنه لم يحاول تطوير ثقافة تقدمية عبر الشغل على الدين والصراع معه، بل تعمد حتى نسيان جهود إصلاحية في مراحل سابقة (محمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، ورشيد رضا الأول...)، وعليه يكون من شأن الاهتمام المستجد بقضايا الدين والفكر الديني أن يؤسس لتقدم أرسخ وأقوى شخصية. ونخمن أنه قد ينقضي جيل كامل قبل أن يظهر جيل عملي جديد، يوحد مطالب التقدم المادي والثقافي والتحرر الفردي والاجتماعي والوطني. أم ترانا مبالغين في التفاؤل؟ *كاتب سوري