ليس الأبطال وحدهم, هم الذين يصنعون التاريخ, فالخونة قد يفعلون ذلك أحياناً.

Ad

والذي نتحدث عنه رجل حوّل بخيانته لسلطانه مجرى تاريخ المسلمين, إن لم يكن تاريخ العالم بأسره ولامراء ففعلته تركت آثاراً لا تمحى خاصة في الشرق العربي.

إنه الأمير خايربك, أمير حلب من لدن قانصوه الغوري آخر سلاطين دولة المماليك بمصر والشام وهو, أي خايربك, الذي غدر بسلطانه وهو يواجه سليم شاه العثماني عند مرج دابق, فاتحا بذلك ثغرة انساب منها الأتراك العثمانيون إلى الأرض العربية حتى بدا الأمر وكأن السماء تمطر تركاً.

أطلق عليه سليم العثماني «خاين بك» من قبيل التفكه والتندر ورغم ذلك فقد استعمله على مصر وظل خايربك وفياً لسيده الجديد إلى الممات.

ولد خاير بك حراً لأب من أصل أبخازي يعرف باسم ملباي الجركسي, وقدمه أبوه للسلطان الأشرف قايتباي, فظل يترقى في الرتب الحربية إلى أن صار حاجب الحجاب في دولة قانصوه الغوري ثم قفز إلى منصب نيابة حلب في سنة 910 هـ, وفي إطار خطة العثمانيين لغزو دولة المماليك اشتروا ولاء خاير بك وأيضاًً جان بردي الغزالي نائب حماة.

اتخذ خاير بك موقعه في ميسرة جيش المماليك عند مرج دابق, و كانت الغلبة في بداية المعركة للماليك حتى أن سليم العثماني فكر في التقهقر لإعادة تنظيم صفوفه وفي تلك اللحظة الحرجة كشف خايربك النقاب عن وجه الخيانة فأشاع أن السلطان الغوري يأمر المماليك بعدم التقدم لملاحقة الفارين من العثمانيين, وما لبث أن انسحب من ميدان المعركة بعد أن أشاع خبر مقتل الغوري, وهنا انكشفت ميسرة الجيش وتحول النصر المملوكي إلى هزيمة نكراء.

ومكافأة له على الخيانة أصبح خايربك أول ولاة العثمانيين على مصر, فأذاق المماليك وعامة الشعب كل العذاب, فحل بالجميع الفقر بينما كان خايربك يشغل نفسه بأمور غريبة.

ففي أواخر ذي القعدة سنة 923هـ نادى خايربك بأن كل من عنده كبش نطاح يطلع به إلى القلعة ليناطح بين يدي ملك الأمراء, وجلس صاحبنا في الحوش السلطاني ليشاهد الكباش وهي تتناطح لاهياً عن المسغبة التي كانت تجتاح القاهرة.

وفي العام التالي شرع بالاهتمام بالكلاب فأشهر النداء بالقاهرة بأن كل من رأى كلباً يقتله ويعلقه على الدكان, واستمر السيف يعمل في الكلاب يوما وليلة حتى هجت الكلاب مما دهاها إلى الترب والصحارى.

ولم يتوقف خايربك عن قتل الكلاب إلا بعد شفاعة المحتسب الزيني بركات الذي ذكره بأن الأمير أزبك الكبير مات بعد سنة من تعرضه للكلاب!!

وكعادة أقرانه شيد خاير بك مدرسة مازالت قائمة إلى اليوم بمنطقة باب الوزير, وذلك من الأموال التي حصل عليها نظير خيانته ومن غراماته التي أرهق بها كواهل تجار القاهرة.

ولكن القدر لم يمهل خايربك ليتمتع بأي شيء مما جناه من أموال طائلة فهاجمه المرض في عام 928هـ وأوقع به من العذابات ما كان موضع تشفي المماليك وأهل القاهرة.

وحسبما يقول المؤرخون فقد كانت به ثلاثة أمراض منه فرخة جمرة طلعت له في مشعره ( ورم سرطاني على الأرجح ) ومنها انحدار انصب له في أعضائه وهو من أنواع الفالج ( الشلل) ومنها كتم البول.

وأعيا الداء الأطباء وتنبه خايربك إلى فعل الخيرات فتصدق أولاً على أطفال الكتاتيب بالقاهرة طالباً منهم قراءة الفاتحة والدعاء له بالشفاء والعافية ثم أفرج عن العديد من المحبوسين والمحكوم عليهم بالإعدام ثم أعقب ذلك باعتاق جميع جواريه ومماليكه وعبيده مع تفرقة القمح على المجاورين بالأزهر والمزارات والقرافات.

ورحل خايربك غير مأسوف عليه ودفن تحت قبته التي ألحقها بمدرسته.

وقد ترك الغضب الشعبي أثره واضحاً فيما تواتر من روايات المتصوفة الذين أنزلوا في مدرسة خايربك إذ ذكر هؤلاء أنهم قد سمعوه وهو يتأوه من العذاب الذي حل به في قبره, وأنهم – أي المتصوفة ومعهم قراء القرآن الكريم – كانوا يتناوبون حسب وقفيته قراءة الآيات طيلة الليل والنهار ترحماً على خايربك قد اضطروا جميعاً بعد وقت قصير إلى هجر المدرسة والتخلي عن رواتبهم لفزعهم من صرخاته ولم تلبث المدرسة بعد ذلك أن أهملت وأغلقت ثم تداعت قمة مئذنتها في القرن التاسع عشر ، ولهذه المدرسة قبة حجرية منقوشة هي الغاية في الجمال المعماري والزخرفي، وذلك هو كل ما تركه خاين بك.. سيرة غير حميدة ومدرسة مهجورة.