التفكير النقدي وهلوسات الإنترنت
الحماس والولاء للمعتقَد شيء جميل مادامت العاطفة لا تطغى على العقل، وخصوصاً مع سهولة الاتصال وتدفق المعلومات عبر الإنترنت والبريد الإلكتروني، لذا فنحن في أمسّ الحاجة إلى التحليل النقدي للمعلومة في ضوء رغبتنا الجامحة لتصديقها.
قبل ما يزيد على العام بعثت إليَّ إحدى الصديقات بريداً إلكترونيا عن «لعبة» جديدة تسمى Gen.pets، وهي -كما تدّعي الرسالة- عبارة عن كائن حي «مصنَّع» جينياً للعب الأطفال، ويمتد عمره إلى ثلاث سنوات. وتحتوي الرسالة على عنوان موقع الشركة المصنِّعة الذي يحتوي على فيلم دعائي لها. وتساءلت صديقتي الذكية إن كان هذا صحيحاً لأن المنطق لا يقبل بهذه البدعة؟! فقمت مباشرة بالبحث عن اللعبة في موقع مخصص لفصل الغث عن السمين في فضاء الانترنت الواسع، وهو www.snopes.com، واتضح أن اللعبة والموقع كليهما خدعة كبيرة قام بها آدم براندس -وهو فنان كندي لم يتجاوز عمره الرابعة والعشرين حينها- ليوعّي العامة بأخطار الهندسة الوراثية. وأعجبنا حينها بذكاء الخدعة، واعتقدنا أن الأمر انتهى عند ذلك. فوجئت، بعد ما يزيد على العام منذ هذه الرسالة، بوصول رسالة أخرى عن الموضوع نفسه، ولكنها هذه المرة باللغة العربية وبصبغة إسلامية، جاء فيها: إن هذه اللعبة تشكل «ثورة العلم، بل فلنقل جنون العلم. الأمر من أول وهلة قد يتنافى مع الإدراك السليم، ويراه البعض خروجاً على الدين، بل ويعتبره آخرون انتهاكاً لحقوق الحيوان!»... «هذه الحيوانات الأليفة الغريبة الأطوار، يراها الزائر لكندا وهي تغط في سبات عميق في بعض محال بيع الحيوانات الأليفة داخل علب بلاستيكية خاصة». ثم يؤكد كاتب الرسالة أنه «لا يخفى على القارئ الحساسية الشديدة التي ينطوي عليه مثل هذا الأمر، حيث إنه قد يدخل تحت تصنيف الاستنساخ، وما ينطوي عليه الاختراع من اعتراضات أخلاقية ودينية جمة، الأمر الذي منع شركة «يوجينيكا» حتى الآن من الترويج لهذا المنتج عالمياً»، ثم يعود ليقول في الرسالة نفسها: إن «دول الخليج تشن حملة تحول دون دخول اللعبة إلى أراضيها». وكدليل أرفق مع الرسالة البريدية كتاب من مدير إدارة الشؤون الإسلامية القطري يؤكد فيه «أن مثل هذه الألعاب مخالف للشريعة والأخلاق الإسلامية». وهكذا، و«بقدرة قادر»، تتحول الخدعة إلى دليل دامغ على انحلال الغرب ونتيجة «منطقية» للعلمانية والإلحاد. وذكرتني هذه الرسالة بتجربة لطيفة، قام بها أحد المدونين واسمه المستعار «سرحان» http://sar7aan.blogspot.com/2008/07/daggaaa.html، إذ قام باستعارة بعض الصور من موقع عالمي لمسابقات فوتوشوب لفواكه وخضراوات ملونة بألوان قوس قزح، وبعثها بالبريد الإلكتروني تحت عنوان «سبحان الله والله أكبر... خضراوات وفواكه ملونة طبيعية 100%»، وألَّف قصة تقول إن هذه الصور التقطت في إحدى القرى القريبة من غابات الأمازون! وخلال أسبوع من تأليف الرسالة، عادت إليه من الآخرين بحماس أكبر ومن دون أي شك في صحتها.الحماس والولاء للمعتقد شيء جميل مادامت العاطفة لا تطغى على العقل، وخصوصاً مع سهولة الاتصال وتدفق المعلومات عبر الإنترنت والبريد الإلكتروني... فنحن في أمسّ الحاجة إلى التحليل النقدي للمعلومة في ضوء رغبتنا الجامحة لتصديقها. و«الشبكة العنكبوتية» مثلما تحمل الخدع والمعلومات المضللة فإنها تحوي مراجع وأدوات قيمة لمَن يسعى إلى معلومة صحيحة بعيداً عن عواطفه وتحيزاته وميوله الشخصية.