لفترة طويلة لم يلفت القضاة نظر الرأي العام... ولا نظر التاريخ، فصديقنا أو عدونا التاريخ كان ينظر حتى من ثقب الباب لما يفعله الساسة الذين يقودون بلادهم وأحياناً العالم كله. كان يعجب في العادة بالمحاربين العظام حتى لو أنهم هزموا في النهاية: الإسكندر الأكبر ونابليون وروميل وحتى تيمورلانك وغنكيز خان. والرأي العام كان يهتم كثيرا بالبرلمانات. فهناك تتحدد التشريعات وتتعين «المصالح المشروعة». والبرلمانات حتى عندما تكون أغلبيتها تابعة لحزب في الحكومة فضاءات يُمارَس فيها الصياح وتشتعل فيها أحيانا أشد المعارك الفكرية والحزبية- بل والشخصية- عنفاً، فهي إذن مثيرة حتى عندما تكون سلطاتها ضعيفة أو غير ذات بال مثلما هو الحال في عالمنا العربي. ثم ان الرأي العام والتاريخ يهتمان بالأزمات السياسية أيما اهتمام لأنها هي التي تصبح موضوعات للثرثرة والإثارة والسرية والمتابعات الصحافية والإعلامية والتعليقات الساخرة كافة التي تحبها الشعوب كثيراً، وقد تعبر أكثر من غيرها عن ذخائره الثقافية ووجدانه الديني أو الأخلاقي. ولهذا يحتل الفاعلون السياسيون مركز الضوء في السياسة المعاصرة، بل وعبر حقب طويلة.

Ad

أما القضاء فهو بديل للعنف مما يجعله أقل إثارة وأقل تأزماً، ومن ثم أقل قدرة على لفت نظر الرأي العام. وهي مهنة تقوم على قاعدة عدم التحيز أو التحزب أو المواقف المسبقة، وهي بهذا المعني تخاطب العقل والعقلاء وليس الباحثين عن الإثارة في ساحات المصارعة أو في ساحات الوغي. وتبرز في صورة القاضي التقليدية لدى الرأي العام ملامح الجدية والوقار والبعد عن الشبهات والروح المتزمتة إلى حد ما، وهي صفات لا تثير خيال الناس. وتعبير السلطة القضائية كان ويستمر مجازاً أكثر منه حقيقة مادية يشار إليها بالبنان. فمعنى السلطة في عقل الشعوب يتحد مع من يمسك بالسيف والمدفع وليس مَن يمسك بميزان العدالة.

اما السبب الأهم لبقاء القضاة والقضاء في طي النسيان في دفاتر التاريخ وذاكرة الأمم وأجنداتها اليومية، فهو أن القانون- وإن اتسعت المنازعات حول تفسيره- لا يتغير إلا بعد حقب طويلة. وفي المجتمعات الديمقراطية المستقرة لا تكاد الأحكام القضائية تلفت نظر غير المتخصصين، أما في المجتمعات غير الديمقراطية فالقضاء تابع وضعيف وغير ملهم على الإطلاق.

أدوار ومشاهد استثنائية

وتظل هذه الصورة العامة للقضاء والقضاة صحيحة إلى حد ما، فلم تحدث تغيرات كبرى في الفكر السياسي والاجتماعي أو في بنية السلطة وعلاقات القوة ما يدعو إلى إعادة النظر في المكانة السياسية والإعلامية للقضاء، ولكن ذلك لا يمنع بروز استثناءات هائلة في التاريخ وفي الواقع الراهن. وفي تاريخنا العربي الإسلامي نفخر بدور قضاة عظام وقفوا بثبات وشجاعة في وجه الحاكم وناضلوا لتجنيب شعوبهم مرارة الظلم. وفي تاريخ الحضارة الغربية يصور لنا فيلم «رجل لكل العصور» عظمة ومحنة قاض صمد بثبات ضد رغبة الملك هنري الثامن في الزواج والتي كانت تقتضي تغيير أحكام دينية. وغيّر الصراع بين الملك والقاضي تاريخ أوروبا، بل ونسيجها الديني بشدة.

وفي حالات استثنائية أيضا لعب القضاء كمؤسسة دوراً حاسماً في تغيير، بل وتثوير، العلاقات الاجتماعية، بل وثقافة بعض الأمم. ويمكننا القول بكل ثقة إن انتصار قيم حركة الحقوق المدنية وإلغاء التمييز ضد الأفارقة الأميركيين ينسب للقضاء بأكثر مما ينسب لمارتن لوثر كينج، ورفاقه أو للرئيس جون كيندي وأخيه روبرت الذي كان يشغل منصب المدعي العام، وهو المنصب القضائي الأول في الولايات المتحدة.

وما إن أُنجز تشريع الحقوق المدنية حتى عاد القضاء في الولايات المتحدة إلى مظهره الهادئ والبعيد عن النقاش العام والمتنحي عن السياسة وأضابيرها. وظل دور القضاء في حسم النقاش العام أو الاختلافات والصراعات العميقة التي تتسع لأمة بأسرها مهماً أو جوهريا في مجالات غير سياسية. هنا تبرز قضايا ذات صلة بأسلوب الحياة مثل «الإجهاض» وما يسمى «حقوق المثليين» خلال السنوات العشر الأخيرة.

أما على المستوى السياسي، فعادت المحكمة العليا الأميركية إلى مركز الصدارة في المشهد العام خلال الأسبوع الماضي بحكم فذ. الحكم يسمح لمعتقلي غوانتانامو برفع قضايا التعويض المدني ضد الإدارة في قضايا التعذيب. وينعش هذا الحكم ذاكرة أميركا والعالم حول الحقوق المدنية والسياسية التي تراجعت بسبب سياسة «الحرب على الإرهاب» وغيرها من الحروب الأميركية في العالم. ويتفرع جانب من أهمية هذا الحكم الذي صدر بأغلبية خمسة ضد أربعة في أن الرئيس الأميركي جورج بوش الابن غيّر تركيبة المحكمة ومال بها بشدة ناحية المحافظة. وبتعبير آخر فرغم توافر أغلبية من المحافظين (ستة أعضاء) مقابل أقلية من الليبراليين، فقد صدر هذا الحكم الحاسم الذي زلزل إدارة بوش المحافظة.

النموذج التركي

ومع أن التجربة الأميركية وأيضا الهندية مهمة للغاية في ما يتعلق بدور القضاء، فلا تكاد توجد سابقة في العالم كله للتجربة المصرية التي سطرها ولايزال يسطرها «نادي القضاة». وقاد النادي خلال الأعوام الثلاثة الماضية نضالاً رائعاً للدفاع عن حكم القانون ونزاهة الانتخابات ومبدأ استقلال القضاء. وما نعنيه بالسابقة هو لجوء القضاة المصريين الى النضال «السياسي» المفتوح من أجل هذه المبادئ، فعقدوا الاجتماعات ونظموا اعتصامات وخرجوا في مسيرات حاشدة دفاعاً عن هذه المبادئ.

ومع أن التجربة المصرية للقضاة غير مسبوقة وتثير بعض القضايا الخلافية فحركتهم تمتعت بتأييد هائل وشبه إجماعي من الرأي العام. بل واضطرت حتى القيادات الرسمية العليا للدولة إلى تجنب أي نزاع إعلامي علني مع القضاة ولم تحاج ضد مشروعية مطالبهم، وإن كان بعض رجالاتها في الإعلام حاولوا إحراج القضاة بذريعة أنهم يتصرفون خروجا على تقاليد القضاء! وبوجه عام ساند الشعب المصري بقواه المختلفة مطالب «نادي القضاة» ولايزال.

الأمر على العكس تماماً في حالة تركيا. ففي تركيا أصدرت المحكمة الدستورية حكماً بإلغاء حزب «العدالة والتنمية» رغم أنه يتولى الحكم في البلاد منذ ما يربو على ستة سنوات بزعم انتهاك الدستور التركي مستندة في ذلك إلى ظاهرة وحيدة هي «الحجاب»!

الحكم أذهل الأتراك والعالم أيضا لأسباب كثيرة. فهو بالمقاييس كلها شديد القسوة ويوحي بالظلم لأنه لم يكتفِ مثلا بتوبيخ الحزب الحاكم، ولا بإجباره على مراجعة موقف ما، ولا بتغريمه تعويض معين. بل ذهب إلى إلغاء الحزب نفسه دفعة واحدة. ويضاف إلى ذلك أن هذا الحزب فاز بالانتخابات العامة بأغلبية شعبية كبيرة غير مشكوك فيها. ويمثل الحزب أملاً للمسلمين المعتدلين كلهم في العالم الذين يرومون إنتاج تفسير معتدل للإسلام يسمح بممارسة حياة ديمقراطية سليمة. وفوق ذلك فهو يثير إشكاليات دستورية لا تنتهي، وخصوصاً علاقة القضاء بالبرلمان وبالشعب ذاته الذي شعر أن هذا الحكم سياسي أمّلَته المؤسسة العسكرية.

وبالطبع ينفي أنصار الحكم، وخصوصاً العلمانيين المتزمتين، أن تكون المحكمة قد خرجت عن اختصاصها. فهم يقولون إن الموضوع الذي بحثته المحكمة لا علاقة له بالبرلمان أو الأغلبية الشعبية لأنه يتعلق بالإجابة عن سؤال ما إذا كان الحزب خرق الدستور أم لا. ويذهب هؤلاء الأنصار إلى مناقشة مطولة ومثيرة بالطبع للنظرية الديمقراطية والدستورية. فهناك في رأيهم التزامات دستورية لا يمكن تغييرها بأي أغلبية شعبية.

وقد نتفق مع هذا الرأي الأخير من حيث المبدأ. وعلى سبيل المثال لا يمكن الأخذ بقاعدة الأغلبية في ما يتعلق بحقوق الأقليات، ولكن توظيف هذا المبدأ في ما يتعلق بقضية بسيطة وخلافية وغير ذات أثر مباشر أو جوهري أو سلبي على مبادئ الدستور الأساسية، وخصوصاً مبدأ المساواة ومنع التمييز، فهو أمر غير عقلاني، كما ان إجبار الشعب على انتخاب حزب لا يؤمن به بسبب حرمانه من التصويت لحزب يؤمن به هو خرق أشد للدستور ولقواعد الديمقراطية.

وبتعبير آخر قد لا يمكن لأغلبية شعبية أن تلغي حقوقاً معينة أو التزامات محددة وقطعية في الدستور. ولكن لا يمكن القبول أبداً بأن آراء حفنة من الأشخاص يمكن أن تعلو على إرادة الشعب لمجرد توليهم مناصب قضائية، وذلك إن هم أصدروا حكماً تشوبه دوافع سياسية.

الإشكالية تحتاج إلى حل أصيل وخلاق ومنطقي أيضاً.

*نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية