محاكم التفتيش الخضراء

نشر في 16-07-2008
آخر تحديث 16-07-2008 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت حين نتحدث عن قضية الاحتباس الحراري فإن الأمر لا يخلو من القصص المرعبة. على سبيل المثال، زعم آل غور أن مستوى البحار سوف يرتفع بمقدار ستة أمتار لتغمر المياه مدناً رئيسية في أنحاء العالم المختلفة.

أما جيم هانسِن مستشار غور العلمي من وكالة «ناسا» للفضاء فقد تفوق على ربيبه بطبيعة الحال، إذ يقترح هانسِن أن الارتفاع في مستوى سطح البحر سوف يبلغ في النهاية 24 متراً، إلا أن الارتفاع أثناء هذا القرن وحده سوف يبلغ ستة أمتار. ولا عجب إذن أن يؤكد زميله بِل ماكيبين من حماة البيئة أن البشر منهمكون في عملية إغراق سريعة لمساحة ضخمة مما تبقى من اليابسة على كوكب الأرض وقدر عظيم مما تبقى على ظهره من الكائنات.

وسط هذه التحذيرات كلها، إليكم حقيقة مزعجة بعض الشيء: طوال العامين الماضيين لم يسجل مستوى سطح البحر العالمي أي ارتفاع، بل لقد انخفض انخفاضاً طفيفاً، منذ عام 1992 كانت الأقمار الاصطناعية التي تدور حول الكوكب تقيس مستوى سطح البحر العالمي كل عشرة أيام بدرجة مذهلة من الدقة 3 إلى 4 ملليمترات، وأثناء العامين الماضيين انخفض مستوى سطح البحر. (يمكنكم الاطلاع على البيانات كاملة بزيارة الموقع التالي على شبكة الإنترنت: sealevel.colorado.edu). هذا لا يعني أن الاحتباس الحراري العالمي غير حقيقي. فمع إطلاقنا للمزيد من غاز ثاني أكسيد الكربون، سوف ترتفع درجات الحرارة على نحو معتدل مع الوقت، فيتسبب ذلك في تدفئة البحار وتمددها بعض الشيء، أي أن مستوى سطح البحر من المتوقع أن يستأنف الارتفاع من جديد، وهذا هو ما تخبرنا به هيئة دراسة المناخ التابعة للأمم المتحدة، إذ تشير أفضل النماذج إلى ارتفاع في مستوى سطح البحر يتراوح ما بين 18 إلى 59 سنتيمتراً في غضون هذا القرن، ويشير التقدير النموذجي إلى ارتفاع يبلغ ثلاثين سنتيمتراً (قدماً واحداً)، وهذا ليس بالأمر المرعب أو المخيف- فقد ارتفع مستوى سطح البحر بمقدار ثلاثين سنتيمتراً على مدار المئة والخمسين عاما الماضية.

الأمر ببساطة إذن، إننا نُـرغَم على الاستماع إلى قصص مرعبة مبالغ فيها، إذ إن إعلان ارتفاع مستوى سطح البحر بمقدار ستة أمتار في غضون هذا القرن يتناقض تماماً مع رأي الآلاف من علماء الأمم المتحدة، ولكي يحدث ذلك فلابد أن يتسارع معدل ارتفاع مستوى سطح البحر إلى أربعين مثلاً لمستواه الحالي، وتخيلوا كيف قد يبالغ المتشائمون في وصف القصة إذا ما شهدنا ارتفاعاً حقيقياً في مستوى سطح البحر.

يزعم المتشائمون على نحو متزايد أن الناس لا ينبغي لها أن تستمع إلى مثل هذه الحقائق، ففي شهر يونيو، أعلن هانسِن أن كل مَنْ ينشرون «معلومات مضللة» عن الاحتباس الحراري- ويقصد أصحاب الشركات وأهل السياسة، بل في الحقيقة كل مَنْ لا يتفق معه في تعريفه الضيق «للحقيقة»- لابد أن يحاكموا بتهمة ارتكاب جريمة في حق الإنسانية.

إنه لأمر محبط ومحزن أن نرى أحد العلماء- حتى ولو كان مُـسيَّساً إلى حد بعيد- وهو يدعو إلى إقامة محاكم تفتيش معاصرة، إن هذه المحاولة الوقحة لتحجيم التحقيق العلمي وخنق التعبير الحر لا يجوز اغتفارها أو محاولة تبريرها.

بيد أن هذه المحاولة قد تشكل أيضاً عَـرَضَاً لمشكلة أكثر اتساعاً، إذ إن محاولة الإبقاء على حالة الهلع المناخي ليست بالأمر السهل مع ابتعاد الحقائق الواقعة عن توقعات المتشائمين على نحو واضح، إذ إن درجة الحرارة العالمية لم ترتفع طوال الأعوام العشرة الماضية، بل لقد سجّلت انخفاضاً حاداً على مدار العام ونصف العام الماضيين، وتؤكد الدراسات أن الحرارة قد لا تعود إلى الارتفاع قبل منتصف العقد المقبل، وفي ظل الكساد العالمي الذي يلوح في الأفق وارتفاع أسعار النفط والغذاء، تأثرت مستويات معيشة الطبقة المتوسطة في الغرب سلباً، وبات من الصعب على نحو متزايد الترويج للحلول العاجزة هائلة التكلفة على غرار «بروتوكول كيوتو» الذي يستلزم تخفيضات هائلة في استهلاك الكربون.

إن التناول الأكثر سلامة ومتانة مقارنة بـ«بروتوكول كيوتو» وخَلَفه يتلخص في استثمار المزيد في الأبحاث والتنمية في تقنيات الطاقة التي لا تطلق أي انبعاثات كربونية على الإطلاق- وهي وسيلة أرخص وأكثر فعالية للتوصل إلى حل حقيقي لمشكلة المناخ.

إن هانسِن ليس وحده في محاولة تحميل الآخرين المسؤولية عن الصعوبة المتزايدة التي يواجهها في الترويج لرسالته، فقد أعلن ديفيد سوزوكي، كبير حماة البيئة في كندا، في وقت سابق من هذا العام، أن الساسة «المساهمين في تغير المناخ» لابد أن يُلقى بهم في السجون. ويطالب مارك ليناز، أحد الناشطين في مجال البيئة، بتأسيس محاكم جنائية دولية على غرار محاكم نورمبيرغ لمحاكمة كل مَنْ يتجرأ على تحدي العقائد البيئية. ومن الواضح أن مقالي هذا يعرضني لخطر السجن على يد هانسِن وشركاه.

إلا أن مشكلة العالم الحقيقية ليست عبارة عن سلسلة من الحقائق المزعجة، بل إن المشكلة ترجع إلى أننا حجبنا الحلول المعقولة تحت غمام هذا الهلع المتشائم، وهو الأمر الذي أدى إلى انتهاجنا لسياسات رديئة. ولنتفحّص هنا واحدة من أهم الخطوات التي اتخذت كاستجابة لمسألة تغير المناخ، كان من المفترض في الوقود الحيوي، الذي تبنته بعض بلدان العالم بسبب الهلع المناخي، أن يؤدي إلى انخفاض معدلات انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون، حتى أن هانسِن وصف هذه الخطوة باعتبارها «جزءاً من مستقبل أكثر إشراقاً لكوكب الأرض». إلا أن استخدام الوقود الحيوي لمكافحة تغير المناخ يأتي في الترتيب كواحد من أفقر «الحلول» وأردأها لأي من التحديات العظيمة التي واجهت العالم في العصور الحديثة.

إن الوقود الحيوي ينتزع الغذاء من الأفواه ويصبه في خزانات وقود السيارات، فالكمية اللازمة من الحبوب لتعبئة خزان واحد فقط لإحدى السيارات الفارهة المتعطشة للوقود بالإيثانول تكفي لتغذية إفريقي واحد مدة عام، وما يقرب من ثلث إنتاج الذرة في الولايات المتحدة هذا العام سوف يُـحرَق على طُـرق أميركا السريعة، وبالطبع لم يصبح ذلك في الإمكان إلا بفضل إعانات الدعم التي سيبلغ مجموعها العالمي 15 مليار دولار أميركي هذا العام فقط.

أظهرت دراسة نشرتها مجلة العلوم (Science) في عام 2008 أن التأثير الإجمالي لاستخدام الوقود الحيوي ليس انخفاض معدلات انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون، بل تضاعف هذه المعدلات، وذلك لأن الطلب المتزايد على الوقود الحيوي لابد أن يؤدي إلى قطع أشجار الغابات الغنية بالكربون، كما ساهم الاندفاع في استخدام الوقود الحيوي في ارتفاع أسعار الغذاء، وهو الأمر الذي دفع بما يقرب من ثلاثين مليون إنسان إلى التضور جوعاً.

بسبب الهلع المناخي تسببت مساعينا إلى تخفيف تغير المناخ في كارثة تامة. ولسوف نهدر مئات المليارات من الدولارات، ونعمل على تفاقم ظاهرة الانحباس الحراري، ونساهم بصورة هائلة في تفاقم الجوع على مستوى العالم.

يتعين علينا أن نكف عن هذا الخوف الأبله، وأن نتوقف عن ملاحقة السياسات الغبية، وأن نشرع في الاستثمار الذكي طويل الأمد في الأبحاث والتنمية، كما يتعين علينا أن نمنع مسرحية محاكم التفتيش «لمرتكبي الجرائم ضد الإنسانية»، إذ إن الجريمة الحقيقية في الواقع هي إثارة الذعر على النحو الذي يؤدي إلى انغلاق العقول أمام أفضل الحلول لمواجهة تغير المناخ.

* بيورن لومبورغ | Bjørn Lomborg ، أستاذ مساعد في كلية كوبنهاغن للتجارة، ومؤسس ومدير "مركز إجماع كوبنهاغن"، ومؤلف كتاب "البيئي المتشكك" وكتاب "اهدأ"، وهو محرر "مقدار تكلفة المشاكل العالمية بالنسبة إلى العالم؟".

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top