يقولون لك إنهم يتبعون منهج السلف الصالح في نهجهم الدعوي وسلوكهم الأخلاقي ورؤيتهم الدينية، حسناً لنقرأ شيئاً من سيرة ومواقف واحد من عظماء هذا السلف الصالح، ولنر إن كان هناك وجه للشبه بينه وبينهم:

Ad

كان للخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الكثير من الصفات الجميلة والخصال الرائعة، لكن أوضح خصاله وأقواها وأكثرها تأثيرا، كانت امتلاكه ضميرا حساسا قلّ نظيره في التاريخ الإسلامي والإنساني على الإطلاق، وقد ظهر ذلك واضحا جليا لمعاصريه، فشبهوه بالميزان الدقيق الذي لا ينحرف أو يجور، ولقّبوه بالفاروق لعدالته المنبثقة عن هذا الضمير المرهف الحس، الشديد المراقبة للنفس دائما، والذي يجعله يتمثل حساب الله له في اللحظات كلها وفي أهون وأقسى المواقف، كان «ضميره» يسأله عن كل شيء، قبل أن يسأله الناس، وقبل أن يسأله رب الناس.

دخل يوما على ابنته حفصة أم المؤمنين فقدمت له خبزا ومرقاً وضعت عليه بعض الزيت، فانصرف عنه وهو يقول «إدامان في إناء واحد لا آكله حتى ألقى الله عز وجل»! ودخل مرة على رجل من المسلمين يستسقيه فقدم له الرجل شرابا من العسل فتركه قائلا: «لا والله، ليحاسبني الله عليه»! ودفع إلى أحد الفرس قميصا له وتعجله في ذلك، فقدم له الفارسي قميصين قد صنعهما، فسأله أليس فيهما من مال الذمة شيء؟ فأجاب الفارسي «لا... إلا الخيط»، فنهره عمر وهو يقول: «اغرب واردد لي قميصي»!

لقد كان يرى الله إذا أصبح، ويراه إذا أمسى، ويتمثل نفسه قائما بين يديه يؤدي إليه الحساب عما قال، وعما فعل، قال حذيفة بن اليمان: أقبلت فإذا الناس بين أيديهم القِصاع، فدعاني عمر فأتيته، فدعا بخبز غليظ وزيت، فقلت له: أمنعتني أن آكل الخبز واللحم ودعوتني لهذا؟ فقال: لقد دعوتك على طعامي، أما ذاك فطعام المسلمين!

وكان يفكر وهو خليفة المؤمنين في الرعية وشبعهم وراحتهم قبل أن يفكر في نفسه وأهله، ومثال ذلك حين قدم عتبة بن فرقد من أذربيجان، أُتِي بالخبيص فأمر بسفطين عظيمين فصُنعا له من الخبيص، ثم حمل على بعير فسرح بهما إلى عمر رضي الله عنه، فلما قدم على عمر ذاقه فوجده شيئا حلوا، فقال: كل المسلمين يشبع من هذا في رحله؟ قال: لا، قال: فلا حاجة لنا فيه فأطَبقهما وردهما عليه، ثم كتب إليه: أما بعد، فليس هذا من كد أبيك ولا من كد أمك، فأشبع المسلمين مما تشبع منه في رحلك!

وقد أجدب الناس في جزيرة العرب سنة من السنين، فكانت أخبار عمر وما صنعه في هذه السنة، من أروع ما حفظه التاريخ في أمة من الأمم، وفي عصر من العصور، من رفقه بالرعية وإشفاقه عليهم، والشدة على أقويائهم والرحمة على ضعفائهم، أمر عماله في الأقاليم بأن يرسلوا الطعام والكسوة للناس، ثم وجه رسله في كل أنحاء الجزيرة وأطرافها لكي يقسموا الطعام ويكسوا الناس، وأشرف بنفسه على ذلك في المدينة وما حولها، وأبى أن يأكل في بيته إذا اجتمع المسلمون للطعام العام، وحرم على نفسه أن يأكل السمن واللحم ذلك العام، واكتفى بتناول الخبز والزيت حتى يخصب المسلمون، رغم أن حرارة الزيت كانت تؤذيه وتجعل بطنه يقرقر، فكان يقول: «قرقر ما شئت، فلن تُطعم إلا الزيت حتى يخصب المسلمون»!

نعم، هذا هو عمر بن الخطاب، أحد عظماء السلف الصالح بحق، وما ذكرته عنه في هذا المقال غيض من فيض، فمواقفه العظيمة لا يكفي لجمعها عشرون مقالا، تمعنوا بصفاته وخصاله رعاكم الله، ثم قارنوها بصفات وخصال من أسموا أنفسهم بالسلف هذه الأيام، هل تجدون وجها للشبه بينه وبينهم؟ هل ترون فيهم بعضا من زهده بالدنيا وزينتها؟ هل تجدون فيهم شيئاً من ترفقه وإحساسه ورحمته بالناس؟ هل ترون عُشر معشار ضميره الحي الذي يحاسبه على كل صغيرة وكبيرة عند أحد منهم؟

سلف هذا الزمان كروشهم منتفخة، وأرصدتهم متخمة، وتكالبهم على الدنيا ومتاعها وعلى المناصب وبهرجها لا حد له، كل همهم في هذه الدنيا هو التضييق على الناس والتدخل في أخص خصوصياتهم، لا يهنؤون ولا يرتاح لهم بال إلا بنشر ثقافة الكراهية بين البشر، وترويع وتكفير المخالفين لهم في الفكر والرأي والرؤية، إن الفرق شاسع وكبير بين ذلك السلف الصالح وهذا السلف الطالح، الذين ابتلانا الله بهم في هذا الزمن الرديء.

رحمك الله وصحبك الكرام يا عمر، فما أبعدكم عن سلفنا، سلوكا وأخلاقا ورحمة وزهدا بهذه الدنيا الفانية!