التعافي المستدام

نشر في 28-11-2008
آخر تحديث 28-11-2008 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت إن الركود العالمي الحاصل اليوم لم يكن نتيجة للذعر المالي فحسب، بل كان نابعاً أيضاً من الافتقار إلى اليقين بشأن الاتجاه الذي قد يتخذه الاقتصاد العالمي في المستقبل. فقد بدأ المستهلكون في التراجع عن شراء المساكن والسيارات، ليس فقط بسبب الضربة التي تعرضت لها ثرواتهم بانخفاض أسعار الأسهم وانحدار قيمة المساكن، بل لأنهم أيضاً لا يعرفون إلى أين ينبغي عليهم أن يتوجهوا؟ فهل يجازفون بشراء سيارة جديدة وهم يدركون أن أسعار البنزين قد ترتفع مرة أخرى؟ وهل سيكون في وسعهم أن يوفروا لأهلهم الغذاء بعد ارتفاع الأسعار على ذلك النحو المروع أثناء هذا العام؟

وحتى القرارات بشأن الاستثمار في الأعمال التجارية أصبحت أكثر تزمتاً وصرامة. فالشركات والمؤسسات عازفة عن الاستثمار في وقت حيث أصبح الطلب على السلع الاستهلاكية في هبوط سريع ومتواصل، وأصبحت الشركات والمؤسسات عُـرضة لجزاءات مخاطرة لم يسبق لها مثيل فيما يتصل بتكاليف الاقتراض. كما تواجه الشركات قدراً عظيماً من الشكوك وعدم اليقين. فما هي أنواع محطات الطاقة التي قد تكون مقبولة في المستقبل؟ وهل سيُسمَح للشركات بإطلاق ثاني أكسيد الكربون كما كانت الحال في الماضي؟ وهل ستظل الولايات المتحدة قادرة على تحمل نمط الحياة في الضواحي والاستمرار في تشييد المساكن المنتشرة في المجتمعات النائية والتي تستلزم السفر لمسافات طويلة بالسيارات للوصول إلى محال العمل.

إن التعافي الاقتصادي سوف يعتمد إلى حد كبير على إحساس أكثر وضوحاً بالاتجاه الذي سوف تتخذه التغيرات الاقتصادية في المستقبل. وهذه إلى حد كبير مهمة يتعين على الحكومة أن تضطلع بها. وبعد ما أبدته إدارة بوش من زعامة مرتبكة مضللة، وبعد إخفاقها في تقديم أي مسار واضح فيما يتصل بسياسات الطاقة والصحة والمناخ، فلسوف يكون لزاماً على الرئيس المنتخب باراك أوباما أن يبدأ برسم مسار يحدد اتجاه مستقبل الاقتصاد الأميركي.

إن اقتصاد الولايات المتحدة ليس بمفرده في هذه المعادلة. ونحن في حاجة إلى رؤية عالمية لاستعادة العافية الاقتصادية على نحو مستدام، على أن تشارك في قيادة وتوجيه هذه الرؤية الصين والهند وأوروبا وأميركا اللاتينية، بل وحتى إفريقيا، التي كانت على هامش الاقتصاد العالمي لمدة طويلة، ولكنها أصبحت إلى حد كبير جزءاً منه اليوم.

هناك بضع نقاط واضحة في هذا الخضم الهائل من عدم اليقين والالتباس. أولاً، لا يجوز للولايات المتحدة أن تستمر في الاقتراض من بقية العالم كما ظلت تفعل طيلة الأعوام الثمانية الماضية. ولابد أن يزيد صافي الصادرات الأميركية، الأمر الذي يعني بالضرورة تناقص صافي صادرات الصين واليابان وغير ذلك من البلدان ذات الفائض. إن التصحيح المطلوب يشتمل على تعديل ضخم في معدل العجز في الميزانية الذي يبلغ حوالي 700 مليار دولار من الحساب الجاري للولايات المتحدة، أو ما يقرب من 5% من الناتج القومي الإجمالي.

وقد يتقلص الفائض التجاري لدى الصين بمقدار نصف ذلك المبلغ (مع امتداد التخفيضات في الفوائض التجارية إلى العديد من المناطق العالمية الأخرى)، وهذا يعني تحول الناتج القومي الإجمالي الصيني نحو الطلب الداخلي وبعيداً عن صافي الصادرات بما يعادل حوالي 5% إلى 10% من الناتج القومي الإجمالي الصيني. ومما يدعو إلى التفاؤل أن الصين تشجع توسعاً محلياً ضخماً في هذا السياق.

ثانياً، لابد من معادلة انحدار الاستهلاك في الولايات المتحدة جزئياً برفع معدلات الاستثمار في الولايات المتحدة. بيد أن الأعمال التجارية الخاصة لن تكثف من استثماراتها ما لم تستشعر توجهاً سياسياً واضحاً فيما يتصل بالاقتصاد. ولقد أكَّد أوباما على الحاجة إلى «التعافي الأخضر» القائم على الاستعانة بالتقنيات المستدامة وليس فقط على الإنفاق الاستهلاكي.

فلابد على سبيل المثال من إعادة توجيه صناعة السيارات في الولايات المتحدة نحو تصنيع السيارات ذات الانبعاثات الكربونية المنخفضة، سواء كانت الهجين التي تدار بالبطاريات أو البنزين، أم السيارات التي تدار بالبطاريات فقط. وتبني أي من هاتين التقنيتين سوف يعتمد على شبكة كهربائية تستخدم أشكالاً من توليد الطاقة التي تنتج انبعاثات كربونية منخفضة، مثل طاقة الرياح، والطاقة الشمسية، والطاقة النووية، ومحطات الطاقة التي تعمل بالفحم مع الاستعانة بتقنيات احتجاز وتخزين الانبعاثات الكربونية. وهذه التقنيات كلها سوف تتطلب تمويلاً عاماً إلى جانب الاستثمارات الخاصة.

ثالثاً، لن تتمتع استرداد العافية الاقتصادية في الولايات المتحدة بالمصداقية اللازمة ما لم تعتمد على استراتيجية راسخة لإعادة التمويل الحكومي إلى مساره السليم. كانت فكرة جورج دبليو بوش عن الاقتصاد تتلخص في تخفيض الضرائب ثلاث مرات وتعزيز الإنفاق على الحرب في الوقت نفسه، الأمر الذي أدى إلى عجز هائل في الميزانية، وهو العجز الذي من المتوقع أن يتسع على نحو هائل في غضون العام المقبل (ربما تريليون دولار) تحت الضغوط الإضافية التي يفرضها الركود، وعمليات إنقاذ البنوك، واتخاذ تدابير الحفز المالي في الأمد القريب.

سوف يكون لزاماً على أوباما أن يضع خطة مالية متوسطة الأجل لاستعادة قدرة الحكومة على التمويل. وهذه الخطة لابد أن تتضمن إنهاء الحرب في العراق، وزيادة الضرائب على الأغنياء، وفرض ضرائب جديدة تدريجية على الاستهلاك. إن الولايات المتحدة تجمع أدنى نسبة من الضرائب على الدخل الوطني بين الدول الغنية. وهذا لابد وأن يتغير.

رابعاً، لابد أن يُـنظَر إلى مناطق العالم الفقيرة باعتبارها فرصاً للاستثمار، وليس باعتبارها مصادر للتهديد أو مناطق تستحق التجاهل. وفي هذا الوقت حيث أصبحت الشركات الكبرى العاملة في مجال إنشاء وتشييد البنية الأساسية في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان تمتلك قدرات فائضة فلسوف يكون لزاماً على البنك الدولي، وبنك الاستثمار الأوروبي، وبنك التصدير والاستيراد التابع للولايات المتحدة، وبنك التنمية الإفريقي، وغير ذلك من صناديق الاستثمار العامة، أن تتوسع في تمويل الإنفاق على البنية الأساسية في إفريقيا، لمد الطرق وإنشاء محطات الطاقة والموانئ وأنظمة الاتصالات السلكية واللاسلكية.

ومادامت الاعتمادات طويلة الأجل وبأسعار فائدة متواضعة (ولنقل 5% على قروض مدتها 25 عاماً)، فإن البلدان المتلقية للقروض سوف تتمكن من سداد القروض بفضل تعزيز دخولها نتيجة للاستفادة من هذه القروض على مدار جيل واحد. ولسوف تكون الاستفادة غير عادية، سواء بالنسبة لإفريقيا أو البلدان الغنية، التي ستتمكن من إعادة شركاتها وعمالها المهرة إلى العمل من جديد. لا شك أن هذه القروض سوف تتطلب مبادرة عالمية كبرى، في وقت أصبحت فيه حتى الشركات الممتازة غير قادرة على الاقتراض لليلة واحدة، فما بالك بالحصول على قرض مدته 25 عاماً!

في الدورات التجارية المعتادة، تُـترَك الدول عادة لإدارة خطط استعادة العافية الاقتصادية بجهودها الخاصة. بيد أننا في هذه المرة سوف نحتاج إلى التعاون العالمي. وإن استعادة العافية سوف تتطلب تحولات كبرى في اختلال التوازن العالمي على الصعيد التجاري والتكنولوجي والميزانيات العامة.

ولا بد من تنسيق هذه التغيرات الواسعة النطاق، ولو بصورة غير رسمية على الأقل، إن لم يكن على نحو مُـحْـكَم، بين القوى الاقتصادية الرئيسية. ويتعين على كل من هذه القوى الاقتصادية أن تدرك الاتجاهات الأساسية للتغيير، والتي سوف تكون مطلوبة على المستويين الوطني والعالمي. ويتعين على بلدان العالم كافة أن تتعاون في نشر التقنيات الجديدة المستدامة والتمويل المشترك للمسؤوليات العالمية، مثل زيادة الاستثمارات في البنية الأساسية في إفريقيا.

لقد بلغنا الآن لحظة فاصلة في تاريخ العالم حيث أصبحت الزعامة السياسية العالمية التعاونية أكثر أهمية من أي وقت مضى. ومما يدعو إلى التفاؤل أن الولايات المتحدة قطعت شوطاً طويلاً إلى الأمام بانتخاب أوباما. والآن حان وقت العمل.

* جيفري دي. ساكس | Jeffrey Sachs ، أستاذ علوم الاقتصاد ومدير معهد الأرض بجامعة كولومبيا.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top