الفرق بين أسئلة سقراط والأجوبة المعلبة
يتعلم التلاميذ في هارفارد وغيرها من الجامعات المرموقة، التي تعزز المهارات التحليلية والتفكير النقدي، كيفية التوصل إلى الأجوبة بأنفسهم من خلال بحثهم للبراهين الكمية والنوعية، لاسيما في العلوم الاجتماعية والإنسانية. في هذه الجامعات لا يقوم المعلم بأي شيء سوى طرح الأسئلة التي تحفز طالبي العلم على التفكير المستمر والمتسلسل. فالمعلم لا يقدم جواباً محدداً لأي مشكلة ولا يتدخل بفرض رأيه، على الرغم من خبرته الكبيرة، لأنه يعرف تمام المعرفة، أن الآراء والأفكار تتبدل وتتغير حسب الزمان والمكان، ولأنه يعلم أن مهمته لا تتعدى تشجيع وتحفيز التفكير النقدي والتحليل المنطقي، حتى يتسنى للطلاب والطالبات حل مشاكلهم بأنفسهم في المستقبل.
بالإضافة إلى ذلك يتعلم كل تلميذ كيف يناقش ويحلل ويبرهن ويختلف مع الآخرين من خلال الجدل وطرح الأسئلة والحلول المختلفة، كل حسب خبرته وتجاربه وتحليله الخاص، والغرض من ذلك الاستفادة والإفادة. المهم هو تعلم كيفية التفكير النقدي وكيفية تحديد واقع المشكلة، وبالتالي طرح أسئلة نوعية لحلها ليس إلا. تشجع هذه الجامعات أيضا أسلوب التفكير الجماعي من خلال حلقات نقاشية بين مجموعة من الطلاب والطالبات لمناقشة موضوع معين، الغرض من هذه الحوارات هو ليس التوصل إلى إجماع، بل مساعدتهم في تطوير طريقة تفكيرهم وتحليلهم، وتشجيعهم على تحمل اختلاف الآراء وتنوع الأفكار. يؤمن هؤلاء بأن المهارات لا تكتسب من خلال التلقين أو مجرد قراءة الكتب وحفظ ما فيها، ولكن من خلال التفاعل الفكري وممارسة الحوار البناء.لا يقتصر هذا الأسلوب على التعليم فحسب، انما في مجالات متعددة كتربية الأبناء وإدارة الأعمال، فقد ورد في أحد مناهج «هارفارد» لإدارة الأعمال أن أحد المديرين المتميزين يؤكد أن «تسعين في المئة من مهمات المدير هي طرح الأسئلة، فالحصول على الأجوبة هي مهمة سهلة نسبياً، ولكن طرح الأسئلة النوعية والمفيدة، هو التحدي الأكبر والأهم». في الواقع، هذا الأسلوب يعود الى الفيلسوف الإغريقي الشهير سقراط، الذي اعتمد في نهجه الفلسفي على الحوارات ومناقشة المواضيع من خلال الأسئلة والأجوبة، فالأسئلة النوعية تولد أجوبة وأفكاراً نوعية وبالتالي يبدع الإنسان ويتطور. هكذا يتعلم الأطفال، فهم يوجهون الملايين من الأسئلة باستمرار وهم يكبرون، ومن هنا جاءت الفكرة المشهورة أن الاطفال فلاسفة بطبعهم. فالأسئلة التي يطرحها الأطفال ما هي إلا عملية تفكير وتفسير وتقييم للأحداث والأفكار التي تشكل حياتهم. أما أطفال هذه البقعة من الأرض فيكبرون ولا تكبر الأسئلة معهم، لأنهم يتشربون ثقافة «لا تسأل» منذ نعومة أظفارهم، فأسلوب تعليمنا وتربيتنا وحياتنا يعتمد على المنهج التلقيني وإملاء الأجوبة المعلبة التي نحشو بها عقول أطفالنا، فنفرض عليهم ما يجب ومالا يجب أن يفكروا فيه. لذا يكبر أطفالنا بعقلية فاقدة لمقومات التحليل المنطقي العقلاني كله، لتصبح عقولهم محدودة أسيرة العادات والتقاليد والأفكار الموروثة التي جبلت عليها، وهي عقول تخاف أن تحيد عما لُقنت به. لذلك تلجأ هذه العقول إلى المرجعيات والمقلدين والكهنة للوصول إلى أجوبة عن جوانب الحياة جميعها، حتى تلك الجوانب التي لا يفقهون فيها، فالحل دائما بجعبتهم، والحقيقة المطلقة ملكهم وحدهم، الأمر الذي أدى لا محالة إلى تعطيل العقل وإلغائه.لذا، فشلت ثقافة «لا تسأل» فشلاً ذريعاً في بناء عقول تطرح أسئلة نقدية، فالوعي الحقيقي لا يقاس بكم التحصيل العلمي فحسب، بل يعتمد اعتماداً أساسياً أيضاً على طرائق التفكير الحر غير المقيد بسلاسل الأجوبة المعلبة.باختصار، الفرق بين أسئلة سقراط وأجوبتنا المعلبة، هو ما يميزنا كمتخلفين عن ركب الحضارة.