قناع الموت
في عام 1971، قررت الفنانة البريطانية (حصلت على الجنسية العراقية بعد وفاة زوجها) لورنا سليم مغادرة العراق نهائياً، وكانت قد أمضت فيه ما يقارب العشرين عاماً في الرسم والتدريس.في السبعينيات -على ما أذكر- قرأت في صحيفة أو مجلة عن لورنا سليم، التي لفّها النسيان تقريباً، ولا يتذكرها الآن إلاّ بعض من النخب الثقافية العراقية والمقربون من عائلتها.
وعندما مات زوجها وشريك حياتها الفنان العراقي الكبير جواد سليم عام 1961، فقدت لورنا سند روحها وضوء حياتها.لكنَّ ما يهمني هنا هو تلك الالتفاتة الشعرية والصداقية البارعة التي قام بها النحات العراقي خالد الرحال. كان الرحال كأنما يُريد أن يُديم أو يُوثق تلك اللحظة الغامضة، والمحيّرة التي تظّلل وتلي الموت مباشرة؛ إذ ما ان جاءه خبر موت صديقه جواد سليم حتى أسرع الى المستشفى، ومعه كمية من الجبس الخاص بالنحت، وقام على الفور بوضعه على وجه جواد، فأنجز، عملاً نادراً بنحت قناع لوجه جواد سليم، وسُمي «قناع الموت».في كتابها المُمتع، الذي وضعته الصحافية والكاتبة انعام كجه جي، «لورنا... سنواتها مع جواد سليم- دار الجديد» إشارة الى ما قام به جواد سليم نفسه تجاه صديقه الفنان فائق حسن، في فترة مبكرة. ولكن على غير العادة، لم يقم جواد سليم بنحت وجه فائق حسن، وإنما نحت يديه وأصابعه البارعة التي «تشتغل» وتفكر.بسبب وفاته المبكرة لم يتسن لجواد سليم أن يرى الصيغة الأخيرة، لعمله الفذ، «نصب الحرّية»، فقامت لورنا سليم بالاشراف الأخير على وضع المنحوتات الجدارية الضخمة، التي تتوسط ساحة التحرير، وهي غير بعيدة عن جدارية فائق حسن، التي تحدث عنها سعدي يوسف في عملٍ شعري شهيرٍ له.والمفارقة أن «نصب الحرية»، منذ أحداث العراق، باتَ يُعرض على نحو شبه يومي في بعض الفضائيات العربية، بينما جواد سليم الصامت، يَتَنزه بإزميله في الجانب الآخر من بستان الحياة.أنجز جواد سليم «نصب الحرية»، في ايطاليا، وعاد به الى بغداد، وجاءت فكرة اقتراح اقامة النصب أصلاً كما تقول انعام كجه جي، بمبادرة من المهندس المعماري رفعة الجادرجي. وقد كانت لجواد سليم الحرية الكاملة، في صياغة الأشكال النحتية والصيغ الفنية الموجودة في تلك الجدارية.مات جواد سليم عن عمر 42 عاماً، لكن أين انتهى المطاف بقناع الموت؟يذكر النحات محمد غني حكمت في رسالة شخصية إلى واضعة الكتاب مؤرَّخة في 1997/3/7 بأنه خلال زيارات متعددة قام بها الى روما، وجد قناع الموت في حانة جينو الايطالية، وكان يرتادها خالد الرحال وبعض الفنانين، وكان القناع موضوعاً ومهملاً في زاوية من المكان، فما كان من محمد غني حكمت إلا أن طلبه من خالد الرحال، للاحتفاظ به، فأعاده الى بغداد مجدداً، ووضعه في «مشغله»، شاهداً على مرحلة ثرية في الفن العراقي الحديث.