هل صحيح ألّا خيار لدى الفلسطينيين غير «المقاومة» أو «الاستسلام»؟ خيار «حماس» أو خيار «فتح» عباس؟

Ad

قبل كل شيء الطرفان غير مختارين على الأرجح، لقد انساقا تحت وطأة عوامل متنوعة، إيديولوجية وسياسية وعسكرية ومالية، إلى «خياريهما»، ولعل العوامل نفسها، وما وراءها من فاعلين إقليميين ودوليين، هي أيضا التي «اختارت» تقابل سياستيهما أو تضادهما، مع إضعاف فرص تكون خيار فلسطيني مختلف.

فهل نتبين نحن، الذين ننظر من بعيد نسبياً، خيارا مختلفا؟ قد نلاحظ مشتركا بنيويا بين «حماس» وعباس، يتمثل في تمركز سياستهما معا حول العدو، وتعريف الذات بدلالته، مقاومة مرة ومسالمة مرة أخرى. المركز المشترك هذا يقلل الفوارق بينهما أكثر مما تفضل إيديولوجية كل منهما أن توحي، وإن خيارات الشعب الفلسطيني تتعرض لتحديد قاس منذ أن تحصرها قياداته السياسية بالموقف من إسرائيل حصراً، وربما بمقتضياته المباشرة، فكأنما الفلسطينيون يعمدون إلى تضييق فسحات مبادرتهم وعملهم الوطني، بدل توسيعها، وكأنهم يتواطؤون ضد ذاتهم في الدوران في فلكين مختلفين حول العدو نفسه. يفترض المرء بداهة أن هدف السياسة توسيع خيارات طرفنا واحتياطيه من الممكنات مع تضييق خيارات العدو قدر الإمكان، أما فعل عكس ذلك فيعني أن السياسة فاشلة وتخدم العدو، لا أقل من ذلك.

فتح عباس لم تسجل شيئاً يذكر في مجال ترقية التعليم العام في فلسطين أو في حسن الإدارة أو توسيع مصادر الدخل الفلسطيني (سجلها سلبي في هذا الشأن، فقد جعلت نسبة أكبر من الفلسطينيين أكثر اعتمادا على دخل يأتي من الخارج) أو في حرية الثقافة والإعلام أو في معاملة السلطة للمواطنين معاملة «إسرائيلية» (أعني كما يعامل الإسرائيليون مواطنيهم اليهود)، أو في كسب ثقة واحترام العالم. محورت كل سياستها حول «عملية السلام» دون أن تهتم بتمكين وتقوية المجتمع الفلسطيني. هذا يعني الاعتماد على حسن نية وكرم العدو. إنه استسلام حقاً، أوضح: ليس استسلاما لأنه يثق بفضائل التفاوض، بل هو استسلام لأنه لا يثق بأي شيء آخر، لا يعزز موقعه التفاوض بعناصر قوة اجتماعية واقتصادية وأخلاقية وغيرها.

سجل «حماس» ليس أفضل... فالقطاع ربما يكون أكثر أمنا مما كان أيام سيئ الذكر محمد دحلان، لكن أوضاع الخدمات والاقتصاد والتعليم والثقافة تعيسة. فالتبعية المالية للخارج ليست أقل على اختلاف الخارج الحماسي عن الخارج العباسي. هذا فضلا عن أن «حماس» تضع نفسها خارج تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، وتسوق انحيازاتها الإيديولوجية إلى تحالفات سياسية لها أجنداتها الخاصة وإلى أنماط حياة وتنظيم اجتماعي «رجعية» بعمق، ويفترض أن كل ذلك من أجل مواجهة العدو المحتل.

على الرأس والعين... لكن العدو هذا بالغ القوة والحصانة، مدعوم من أقوياء العالم الذي يُكنّون قليلا فحسب من التعاطف مع الفلسطينيين، ولا يكنون أي تعاطف مع «حماس». هذا بينما الجبهة العربية مفككة جدا، وأقرب إلى عبء منها إلى سند. وكل ذلك معروف، لم ينكشف فجأة للناظرين، ترى ألا يمكن للاهتمام بمستوى حياة الفلسطينيين في القطاع (نصفهم أو أكثر يعيشون دون خط الفقر، والعاطلون عن العمل فوق 40% من مجموع العاملين منهم)، والاهتمام بتعليمهم وتأمين مساكن لائقة وشوارع نظيفة، وإعلام مهني وحر، أن يكون هدفا مقبولا؟

لا ينبغي أن يحول دون التفكير في هذا الاتجاه انفعال مخلص حيال الوحشية الإسرائيلية والانحياز الغربي الفاضح والعجز (أو حتى التواطؤ) العربي المخزي. لا شيء من ذلك مفاجئ، والانفعال لم يصلح يوما أساسا لسياسة موفقة أو تفكير سديد.

لا ينبغي أن يكون ثمة تساؤل حول مع من يكون المرء حين تقصف غزة بوحشية ويقتل المئات من أبنائها على يد قوة محتلة، جبارة ومتعجرفة، لم تقبل يوما بالمساواة مع ضحاياها، لكن لا ينبغي أيضا افتراض أن الحرب الإسرائيلية على غزة تفرض على الجميع، بمن فيهم غير المحاربين من أمثالنا، أن يمتنعوا عن مساءلة السياسات الفلسطينية، دع عنك أن يتماهوا مع هذا الطرف الفلسطيني أو ذاك... شغلنا نحن هو النقد، وليس التماهي، والنقد يحتاج إلى رؤوس باردة وقلوب دافئة لا إلى رؤوس ساخنة وقلوب باردة مما يميز أهل النفاق في كل حين.

لا وهم لدينا في أن استراتيجية بناء مدنية فلسطينية، تمنح الأولوية للتعليم والاقتصاد وحسن الإدارة وتنقية الأجواء العامة والثقافة، أي كل ما قد يندرج تحت عنوان ما يسميه جوزف ناي «القوة الناعمة»، ستلقى الترحاب من إسرائيل، لكن توجها كهذا في ظل ظروف كظروف الفلسطينيين أرفع أخلاقيا وأقل كلفة إنسانية، وفرص الدفاع عنه أكبر في العالم كله، هذا فضلا عن أن من شأنه تحييد الميزة التفاضلية الأكبر لإسرائيل، أعني التفوق في مجال وسائل العنف أو «القوة الخشنة». لقد انساقت «حماس»، وقبلها «فتح»، مرة تلو مرة إلى الملعب الذي تحوز فيه إسرائيل أفضلية مطلقة لا شك فيها، فكان حالهما حال من يأتي بالدب إلى كرمه!

إلى ذلك فإننا نجزم أن الإحجام عن استراتيجية بناء «القوة الناعمة» أوثق علاقة بالصراع على السلطة والشرعية، وتاليا على النفوذ والهيبة والثروة، منه بتمرد أخلاقي ووطني على احتلال غاشم. وإنما لذلك، أعني لأن خطط السلطة مقدمة على غيرها (بما فيها «المقاومة»)، لا تجد الدعوة إلى اجتناب الحرب أي صدى مادامت هذه أضحت صناعة وعلما، ومادام من يملك نواصي الصناعة والعلم هم خصومنا وأعداؤنا، فالأمر لا يتعلق بالمقاومة ولا بالتحرير ولا العدالة... إنه يتعلق أولا وأخيرا بالسلطة، ذلك الوثن المقدس المعبود، والشيطان وحده من ينتصر في الصراع المطلق على السلطة، لا الوطن ولا الإنسانية. أليس في الخراب المتمادي في فلسطين وفي عالمنا العربي ما يدل على أن الشيطان هو حاكمنا المنتصر؟

* كاتب سوري