بعد أن تم طرد الغزاة، وعادت إلينا بلادنا حرة، هل مازلنا نشعر بالأمان؟ يبدو أنه صار علينا أن نتعامل مع غزو لا يقل خطورة، غزو «يعشش» في الأذهان، تقوده مجموعة من المهرجين السياسيين الذين يجرّون البلاد إلى هاوية قد تكون أشد خطورة ووطأة من الغزو الخارجي.* أيام الغزو واحتلال العراق للكويت... أيام تداخلت فيها الأشياء، وتاهت فيها الصور، كان فيها الكثير مما هو محزن، وفي المقابل كان فيها ما يبعث على الأمل، وحيث إنني كنت من ضمن الكويتيين الذين قرروا البقاء والصمود فلدينا الكثير من القصص والأحداث.
والحق يقال، إننا اخترنا البقاء على أرضنا ونحن بكامل قوانا العقلية والجسدية. ولمزيد من الدقة، فإن خيار الخروج من الوطن لم يكن مطروحا على الاطلاق، فقد حرقنا سفن الرحيل منذ اللحظة الأولى للغزو.
وخلال فترة الاحتلال وصلتُ إلى حدودنا الجنوبية مرات عدة، لإيصال عجائز وأطفال، وغيرهم إلى بر الأمان، أعود بعدها إلى التعامل مع حالة «الكوميديا السوداء» التي تحولت إليها الكويت أثناء الاحتلال. كنت أشعر حينها، على المستوى الشخصي، بأن الخروج من الوطن بمنزلة الموت، وكان البقاء حياة.
لم أكن متأكدا إن كانت تلك الرؤية تعبر عن وطنية والتزام، أم أنها مجرد قرار لا أكثر ولا أقل، ولذا لم أكن أحمل حينها أي موقف سلبي تجاه الذين تركونا وخرجوا خوفا أو اضطرارا، ولم أكن أرى أن الذين صمدوا هم بالضرورة، أكثر وطنية.
* حكاية الغزو والتجليات والإبداعات الرائعة لأولئك الكويتيين وغيرهم الذين قرروا البقاء على الأرض لم تروَ بعد، بل ضاعت تلك الإبداعات في زحمة التكالب على ادعاءات أغلبها فارغ المحتوى، كما ضاعت في أجواء صخب إعلامي ودعائي أراد فيه بعضهم أن يبدو البطل الأوحد. ففي إطار تلك «الزحمة» والضجيج الدعائي ضاعت الفرصة لإيضاح الصورة الحقيقية للتحولات الاجتماعية الشاملة التي كانت هي المحرك الأساسي لأولئك الذين صمدوا.
كان الجميع من دون استثناء يمارس بطولة من نوع ما، كل على قدره. ومن الطبيعي أن تكون هناك وجوه قد برزت أكثر من غيرها، وربما ضحت أكثر من غيرها، ولكن تلك الوجوه بقليلها وكثيرها قد ضاعت وسط الزحام، ومعها ضاعت التجربة، وضاعت الفرصة لفهم مكامن القوة في المجتمع.
* في أيام الاحتلال، تحولت لدينا المصطلحات، واستحدثت لدينا مفاهيم لم نكن نعرفها، وكان تكيفنا معها سريعا جدا، واستمرت بعض الكلمات معنا زمنا طويلا، ولنأخذ مثلا كلمة «تحت»، فقد اقترنت بحديثنا ووعينا بأنك عندما تقول «تحت» فإنه يأتي مباشرة بعدها كلمة الاحتلال، أي أننا «تحت الاحتلال». ربما لم نلاحظ ذلك حتى نبهنا صديقنا الشاعر المبدع مسفر الدوسري حين قال:
«من يقول إن إحنا كنا لحظة تحت الاحتلال
كنا إصرار وتحدي
كنا فوق الاحتلال».
* حديث المصطلحات، وقوة اللغة وتأثيرها حديث فيه الكثير من المفارقات، فقد تحولت لدينا مثلا «نقطة التفتيش» إلى «نقطة سيطرة»، وقد كانت فعلا معبرة عن واقع حالها، فأين كانت نقطة التفتيش للشرطة الكويتية من نقطة السيطرة، التي كانت تهيمن على مداخل المناطق السكنية الكويتية كافة ومخارجها. فعندما كنا نتوقف عند نقطة السيطرة تلك بهوياتنا المزورة، لم نكن نعلم إن كنا سنمر أو لا. ولحديث المصطلحات وتباينها تكملة.
* الأهم من هذا وذاك هو أننا وبعد مرور ثمانية عشرة عاما على الغزو، الذي صمدنا أمامه بخبراتنا وقدراتنا المتواضعة، ولكن بوضوح هدف، وإصرار على التصدي، وبعد أن تم طرد الغزاة وعادت إلينا بلادنا حرة، هل مازلنا نشعر بالأمان؟ يبدو أنه صار علينا أن نتعامل مع غزو لا يقل خطورة، غزو «يعشش» في الأذهان، تقوده مجموعة من المهرجين السياسيين الذين يجرّون البلاد إلى هاوية قد تكون أشد خطورة ووطأة من الغزو الخارجي... وللحديث بقية.