بالنظر إلى طبيعة الفن المعقدة، كإنتاج شخصي ذاتي ينطلق من موهبة وثقافة وإدراك لمفاهيم اجتماعية محلية وإنسانية، ويعبر عن وجهة نظر خاصة، تتوجه العامة، من خلال تبني وجهات نظرها بمعاناتها وأحلامها. فإن أوساط علم الاجتماع العالمية تنظر إلى العالم الفرنسي بيير بورديو، (1 أغسطس 1930- 23 يناير 2002)، بوصفه أحد أهم علماء الاجتماع في القرن العشرين، كونه اهتم بتناول أنماط السيطرة الاجتماعية بواسطة تحليل مادي للإنتاجات الثقافية، يكفل إبراز آليات إعادة إنتاج البنيات الاجتماعية. ويفرق بورديو بين ثلاثة مصطلحات تخص رأسمال المثقف، هي: رأس المال الثقافي، ورأس المال الرمزي، ورأس المال الاقتصادي.
رأس المال الثقافي، حسب توصيف بورديو، هو مجموعة المعارف التي تكونت للمبدع والمثقف على امتداد تحصيله الفكري والثقافي الأدبي والإنساني، والتي يعمل منطلقاً منها ومعتمداً عليها، سواء في إنتاجه الإبداعي، أو ممارسة دوره كمبدع ومثقف في وطنه وخارجه. أما رأس المال الرمزي، فهو ما يتحصل عليه المبدع والمثقف من شهرة واعتراف بموهبته وتميّزه، نتيجة إنتاجه الإبداعي والثقافي، أو نتيجة الدور الثقافي الذي ينهض به. أما آخر رأسمال، ونعني به رأس المال الاقتصادي، فهو المردود المادي الذي يجنيه المبدع والمثقف، من جراء إنتاجه الإبداعي ودوره الثقافي، اعتماداً على رأسماله الثقافي والرمزي. إن نظرة فاحصة للمصطلحات الثلاثة السابقة، تظهر أن رأس المال الأهم هو رأس المال الرمزي، الذي يعتمد على موهبة ووعي المبدع والمثقف وتحصيله المعرفي والثقافي المستمر من جهة، وقدرته على ترجمة هذا التحصيل لإنتاج إبداعي ومعرفي لافت من جهة ثانية، وما يترتب على ذلك من جنيه لرأسمال رمزي كبيرا كان أو صغير، علماً بأن رأس المال الرمزي قد لا يكون حقيقياً دائماً، بمعنى إمكانية أن يحوز مبدع أقل موهبة على رأسمال رمزي أكثر مما يحوز عليه مبدع آخر أكثر منه موهبة. وهذا يتجلى واضحاً في ظاهرة الكتب الأكثر مبيعاً في عموم بلدان الغرب. فكاتب روائي أميركي مبدع كريتشارد فورد، لا تحوز كتبه أعلى المبيعات دائماً، علماً بأنه واحد من أهم كتاب الرواية في أميركا في القرن العشرين. إن السبب وراء جني بعض المبدعين والمثقفين لرأسمال رمزي كبير، لا يتناسب مع رأسمالهم الثقافي وموهبتهم المتواضعة، هو تداخل أكثر من عنصر لتشكيل رأس المال الرمزي وفي مقدمة ذلك وسائل الإعلام المرئي والمقروء والمسموع، وكذلك الوعي الشعبي العام، الذي قد يمنح الإنتاج السهل والمسلي والسطحي قيمة أكثر من القيمة التي يمنحها للإنتاج المبدع والجاد والعميق. وهذا يفسر حصول البعض على شهرة كبيرة زائفة وآنية، مقارنة بخلود آخرين لم ينالوا شهرة تتفق وتفرد موهبتهم في زمنهم. إن المبدع والمثقف، وبسبب من الدور الذي ارتضاه لنفسه، معني أكثر من غيره في النظر إلى الواقع ومحاولة نقده وتجاوزه فنياً. وهو بذلك يعبّر عن فكر شخصي يمثل رؤية طليعية متقدمة لما هو قائم. إن تجاوز السائد صعب ويحتاج الى جسارة وشجاعة كبيرتين. صعب لأن السائد حاضر وثابت ولا يسمح بجديد يزحزحه عن مكانته، ويحتاج الى جسارة وشجاعة، لأن الخروج على السائد مرفوض لدى العامة. من هذا يتضح الدور المهم والمقدس الذي يمارسه المبدع والمثقف، ومن هذا يتضح لماذا لا يتوازى رأس المال الرمزي مع رأس المال الثقافي لبعض المبدعين.
توابل - ثقافات
رساميل المثقف
05-08-2008