هيبة الدولة في الامن الانساني
تعالت أصوات الممجدين «للرموز» والمهللين للحكومة... وارتفعت أصوات مَن يطالبون بفرض القوة والصرامة والتعسف من أجل فرض «هيبة الدولة» وكأننا في دولة السلاطين ووعاظها .. أي هيبة هذه التي تتكلمون عنها؟ وهل بقي للدولة هيبة بعد كل هذا التراجع والتردد والتقهقر؟
مشكلتنا أننا لانزال نطبق مفهوم أمن الدولة التقليدي الضيق الذي عفا عليه الزمن، ونجهل ما توجه إليه العالم المتحضر من فلسفة جديدة للأمن الإنساني، الذي يبدأ بالإنسان... فأمن الإنسان هو من أمن الدولة وليس العكس. وبينما يعتمد جهاز أمن الدولة على القوة والردع، يؤكد مفهوم الأمن الإنساني على أهمية «القوة اللينة» كالتنمية البشرية والحكم الرشيد وحكم القانون والسياسة الأمنية الشاملة، فالوقاية المبكرة خير من الردع والعلاج المتأخر.فسبب التأخر الحضاري الذي نعانيه هو فشل الحكومات المتعاقبة في إدارة الدولة، التي تطلب من الناس الالتزام بالقانون وهي أول من ينتهكه، من خلال تعزيزها الطائفية والقبلية وكسب العصبيات والولاءات على حساب مفهوم المواطنة ودولة القانون، الأمر الذي حال دون بلوغ التقدم والتحديث واكتمال الديمقراطية، والذي أدى بدوره إلى إطلاق بعض المرشحين شعارات ثورية لا علاقة لها بثقافة الديمقراطية واحترام الدستور.وبعد كل ذلك تأتي الحكومة وتفرض هيبتها بالقوة من خلال تعسفها في الاعتقالات والحجز الذي يخالف المادة 31 من الدستور والذي يقر أنه: «لا يجوز القبض على إنسان أو حبسه أو تفتيشه أو تحديد إقامته أو تقييد حريته في الإقامة أو التنقل إلا وفق أحكام القانون ولا يعرض أي إنسان للتعذيب أو المعاملة الحاطة بالكرامة»... ونحن هنا لا نتفق مع ما تفوه به بعض الثوريين في الإتيان بمجاميع تقف ضد الدولة وتحاربها، ولكننا نطالب بتحويل تلك التهمة للنيابة العامة والقضاء العادل للنظر فيها، حتى لا نتحول إلى دولة بوليسية تعتمد على القمع والاعتقال وتنظر للمواطن على أنه متهم إلى أن يثبت براءته. إن الخلل كله يكمن في فشل الدولة في بناء بنية ثقافية ترتكز على مفهوم المواطنة واحترام القانون، وهو إرث ثقيل يتوجب علينا صده ومحاربته وإلا غرقنا جميعنا. فعلى الحكومة أن تسعى بكل الوسائل إلى تحويل الذهنية البدوية القبلية الطائفية إلى ذهنية تنويرية إصلاحية متحضرة. ليتحول المجتمع القبلي إلى مجتمع مدني يعتمد على المعايير القانونية والمساواة أمامها.لعلنا لا نبالغ في وصف ديمقراطيتنا التي أُفرغت من محتواها بديمقراطية استهلاكية تتحكم بها مزاجية المسؤولين ويغيب عنها مفهوم المؤسسات وسلطة القانون، الأمر الذي أدى إلى بروز مفاهيم أخرى بديلة عن المجتمع المدني، وهي مفاهيم العصبيات والنعرات وفوضى الانتماءات.فالدولة المدنية هي على نقيض المجتمع العصبوي الذي يعزز الولاء للدم والطائفة والمذهب مقابل مفاهيم الهوية الوطنية والإنسانية، وهي لا تنمو ولا تترعرع إلا حين يضمحل دور الدولة ويتلاشى.فمتى تعي الدولة أن هيبتها لا تكون إلا في أمنها الإنساني لا أمن الدولة؟