يتضمن القرآن في فلسفته للسؤال الإجابة عن السؤال النافع وترك السؤال الذي لا نفع فيه، السؤال النظري الخالص الذي لا يحتاج إلى إجابة نظرية، بل إلى استعداد عملي، وهو في سبعة موضوعات:

Ad

-1 كثرة السؤال والإلحاح، فكل سؤال له إجابة، وكل إجابة تتضمن تشريعاً، وكل تشريع قيد، والإنسان يكره القيود بطبعه، فيلفظ الشريعة، [قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ]. والسبب كثرة السؤال، فقد سأل موسى كثيراً رفيقه الخضر حتى شعر أنه أكثر السؤال، [قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي]. وهذه هي تجربة اليهود، كثرة السؤال ادعاء للإيمان والطاعة ثم رفض الإجابة امتناعاً وعصياناً، [قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا].

-2 والسؤال لا يكون من الصديق إلى الصديق، ومن الحميم إلى الحميم، [وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا]، فبين الأصدقاء هناك لغة الصفاء والاتحاد والتفاهم المشترك من دون حاجة إلى سؤال. السؤال يقتضي التمايز بين طرفين، والغربة بين شخصين. السؤال يكون من الغريب إلى الغريب.

-3 والسؤال لمزيد من العلم وليس لمجرد حب الاستطلاع. السؤال عما يمكن معرفته وليس عما يستحيل معرفته مثل السؤال عن المجهول المطلق مثل الغيب الذي لا وسيلة للإنسان إلى معرفته، [قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ]. وهو ما قرره كانط من قبل عن حدود المعرفة الإنسانية وإمكاناتها، فالإنسان لا يعرف إلا الظاهر، ما يبدو له، وليس الباطن ما يخفى عليه. العلم علم بالظواهر وليس بالبواطن على الرغم من ادعاء الصوفية وأهل الباطن والباطنية بوجه عام.

-4 والمحتاج لا يسأل، بل تعرف في وجهه الحاجة ويتعرف الناس عليه، [تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا]. مع ان السائل في حاجة، وهو سؤال عملي، ولكن الكرم لا يُطلب، والعون لا يُسأل احتراماً لكرامة الإنسان وإلا تحول الفقراء إلى سائلين وسوالين. وقد نقد محمد إقبال «فلسفة السؤال» أي الشحاذة، من يسير طوال النهار ماداً كفيه إما طلبا للإحسان من الناس وإما طلباً للعون من الله، فالمؤمن ليس شحاذاً. والشحاذ ليس مؤمناً. والمؤمن مَن يعمل بقبضة يديه في الأرض ولا يرفعها إلى السماء.

-5 والسؤال عن الكتاب أصله ومصدره ومرسله ورسوله لا فائدة منه. السؤال عن الرسالة وفحواها ومتطلباتها وغايتها والهدف منها ومنفعتها هو الأهم. ليس السؤال هو نزول كتاب من السماء، فالكتاب ليس شيئا يرى، بل كلام يُقرأ وفعل يتحقق، [يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ]. كلام الله يُرسل إلى ذهن النبي إلى عقول الصحابة شفاها حتى يؤثر فيهم بالصوت قبل التدوين. والقراءة أقرب إلى القلب من الكتابة، لذلك آثر الصوفية الطريق الشفاهي للتعليم وليس الطريق الكتابي.

-6 والسؤال عن الساعة سؤال يقضي على الوجود الزماني، وان الجهل بساعة الموت بعد العلم بساعة الميلاد هو شرط الإبداع الذاتي قبل وفاة الأنا، لذلك قال الفلاسفة إن الوجود زماني، وان الزمان وجودي. ومن لا يموت لا يكون إنساناً. لا يحب ولا يخاطر ولا يسرع ولا يفعل شيئاً في اللحظة، لأن عمره محدود في الزمان كله، كما صورت سيمون دي بوفوار في مسرحيتها «كل البشر فانون»، [يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ]. وهو معنى سؤال أحدهم للرسول «متى الساعة؟» قال «فاستعد لها». ليس الزمان هو الحدث الخارجي، الواقع، بل هو شعور داخلي يدفع إلى الحركة والسبق. زمان الحدث هو الزمان الكمي المكاني، زمان القطارات والعربات والبواخر والمواصلات. وهو ما عبر عنه برجسون بوضوح في التمييز بين الزمان المكاني، زمان الساعة، الامتداد، والزمان الشعوري، الزمان النفسي، التوتر.

-7 والسؤال المتناقض هو رؤية الله، [فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً]، فالله لا يُرى بالعين لأنه ليس شيئاً، وليس موضوعاً مقابلاً للبصر. الله مثل أعلى يشعر به الإنسان لتحقيقه. أقرب إلى الروح والمعنى أو الهدف والغاية، لذلك كان الاتجاه إلى أعلى، ورفع الأيدي إلى السماء أو إلى الأمام واستبصار المستقبل كما هو الحال في المعنى الاشتقاقي في اللفظ «بنى» ارتفع أو «رنا». وهنا يظهر التوجه القرآني على أنه دافع نحو الفعل والعمل بأقل قدر ممكن من النظر على عكس ما هو حادث الآن، أكبر قدر ممكن من النظر وأقل قدر ممكن من العمل. وكلما عجز العمل تفوق النظر، تعويضاً غير قصدي أو نفاقاً قصدياً، لذلك كتب محمد عبده «ما أكثر القول وأقل العمل». وفي القرآن، [فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ]. ومن الأحاديث «أحب الناس إلى الله أنفعهم».

* كاتب ومفكر مصري