اللاجئون والهوية الثقافية!
في اليوم العالمي للاجئين استرجعت حديث القاضي يوجين قطران، وهو قاضي بريطاني من أصل فلسطيني، مضى على وجوده في بريطانيا نحو ستة عقود من الزمان، ولعله أول قاض في بريطانيا من أصول عربية، قال في ندوة «اللاجنسية في الوطن العربي»، التي أقامها مركز أكسفورد لدراسات اللاجئين والمنظمة العربية لحقوق الإنسان، ومركز «اللاجئين والشتات الفلسطيني» (شمل) في رام الله (2000) إنه: «ظل يعاني رحلة المنفى المثيرة وازدواجية الهوية وثنائيات الولاء والانتماء والمواطنة والجنسية».لعل حديث القاضي قطران هو تعبير عن معاناة اللاجئين والمهجرين والمنفيين، لاسيما بعد الاستقرار في البلد المضيف، حيث تبدأ الذاكرة تطل برأسها بين الحين والآخر، وتعيش بموازاة الحاضر وربما تتطلع الى المستقبل، من خلال هوية مزدوجة وثنائية في المواطنة فضلا عن الولاء والهوية في الكثير من الأحيان.
هذه الصورة طبعت حياة المنفيين الألمان خلال الحرب العالمية الثانية وقبلهم المهاجرين الروس في العشرينيات، وفي أواخر الأربعينيات والخمسينيات ومن ثم بعد عدوان 5 يونيو 1967 كان حظ الفلسطينيين منها وفيراً، خصوصاً وقد اقتلعوا من وطنهم وطردوا من أرضهم في عملية إجلاء وترحيل سكاني جماعي. وفي الخمسينيات كان المهاجرون الإيرانيون واليونانيون نموذجها البارز، وفي السبعينيات ازداد المهاجرون التشيليون والأكراد العراقيون، وفي أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات كان المنفيون والمهجرون العراقيون يتكاثرون، لاسيما لأسباب سياسية، وفي ما بعد بسبب الحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988، وخلال سنوات الحصار الدولي 1990-2003 كان عدد المهاجرين يرتفع بشكل مريع لأسباب اقتصادية بدرجة أساسية، رغم أن الهجرة العراقية، اختلطت فيها الأسباب السياسية بالاقتصادية بالدينية بالمذهبية بالاثنية.وبعد الاحتلال تعاظمت عمليات اللجوء والنزوح الداخلي لتشكّل ظاهرة خطيرة في المجتمع العراقي، حيث بلغت أعدادهم حسب إحصاءات الأمم المتحدة نحو أربعة ملايين و600 ألف لاجئ، أي انهم يشكلون نحو 15% أو ما يزيد على ذلك من المجتمع العراقي، وشملت حملة الهجرة والنفي الاتجاهات والقوميات والأديان والطوائف والمراتب الاجتماعية جميعها، لاسيما بعد تفجير مرقدي الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء في فبراير 2006، وما نجم من ردود أفعال وعمليات تطهير مذهبي عشوائية ومنهجية. يعيش اللاجئ والمنفي والمهاجر والنازح في هواجس وشكوك وإحباطات وتطلعات، لكن همّه الأول هو تعويض الوطن بالحرية، وتعويض الخوف بالاستقرار والحاجة إلى الحصول على تعليم ومورد له ولعائلته، وقد بحث إدوارد سعيد في كتابه «خارج المكان» الصورة المعقدة والمركبة والمزدوجة بين الوطن والمنفى، فقد حاول الاستعاضة عن فلسطين بمصر ولبنان، وبضياع الوطن والمواطنة الأولى لاسيما التي انطبعت في الذاكرة، بالمواطنة المكتسبة ومكان العيش البديل، ولم يكن ذلك من دون قلق مستمر واضطراب شديد وهواجس مشحونة، لكن فلسطين بالنسبة لإدوارد سعيد مثلما هي الأوطان الأصلية تظل الفضاء الذي تسبح في أجوائه الذكريات الأولى ومراتع الصبا والنشأة.المحطة الجديدة تظل تمثل الجسر بين ماضٍ لا يمكن أن يُنسى وحاضر لا يمكن أن يدوم، وبينهما صور وانعكاسات وأحداث ووقائع ومؤامرات وآمال وحروب، ولكن الذاكرة تظل قائمة، وكأنها تعيش واقعاً هو استمرار بحثها عن هوية ومكان وأرض ووطن مسلوب. لم يكن إدوارد سعيد بعيداً عن جبرا ابرهيم جبرا حين تحدث في «البئر الأولى» عن نشأة الطفل والتشكّل الأول لذاكرته، وما استقر فيها من تفاصيل، ولم يكن من الممكن محوها أو تجاوزها، فقد حُفر في قاع الذاكرة ما لا يمكن إهماله أو إزاحته.المكان الجديد، باعتباره «وطنا» تعويضيا، رغم اختلاف الظروف، قد يثير هو الآخر إشكالات تتعلق بالثقافة الجديدة وبالحياة الاجتماعية الجديدة وباللغة وبالعادات والتقاليد، وقد يغدو الأمر مشكلة حقيقية، وخصوصا بين الجيل الأول والجيل الثاني (الشباب) الذي لا يعرف الوطن الأول سوى انه امتداد له، وأن يتأثر به ويستعيده من خلال الكتب والصور والأفلام وعبر الآباء، لكنه يبقى بعيداً وربما غريباً عنه، الأمر الذي يطرح مسألة ازدواجية الهويات.وإذا دخل عنصر الدين في الموضوع، فإن هناك كثيرا من عوامل الكبح والرفض وعدم الاندماج تدخل على الخط. ويزداد الأمر تعقيدا بالنسبة الى المرأة في ظل العقلية الشرقية والأبوية التي تبقى تفعل فعلها في حياة المهاجرين والمنفيين لوقت طويل، وربما تتجدد بأشكال وأساليب تزيد من التمسك بها على نحو يبدو شديد الغرابة والتعقيد، في حين أن الميل الى الاندماج يشكل الوجه الثاني للصراع، بل ولـ«المونولوج» الداخلي للمنفيين لاسيما للجيل الثاني.وقد نقلت الصحافة الأوروبية ووسائل الإعلام بما فيها التلفاز عشرات حوادث القتل غسلا للعار أو احتجاز الأبناء لاسيما الفتيات من جانب الآباء أو الإخوان لمنعهن من ممارسة حريتهن التي يكفلها القانون أو إجبارهن على أداء طقوس لا يرتضيها التحضّر الأوروبي وتحاسب عليها القوانين، بحجة العادات والتقاليد للآباء أو لبلدان الأصل، بما فيها من عشائرية وجهوية واجتماعية ودينية ومذهبية، الأمر الذي يطرح مجدداً مسألة الهوية والانتماء والمواطنة لا بمعناها القانوني فحسب، بل بدلالاتها الثقافية والاجتماعية، ويواجه هذا الأمر الكثير من الجاليات العربية والمسلمة على المستوى العالمي، خصوصاً أن بعضها فقد علاقته بالوطن الأصلي أو ضعفت هذه العلاقة لدرجة أصبحت تشكل عبئاً عليه، فلا هو قادر على نسيانها ولا هو قادر على الاستغراق فيها أو الامتثال لمتطلباتها، خصوصاً للأجيال الجديدة من اللاجئين.* باحث ومفكر عربي