الفجر
لا يرتبط الزمان فقط بالإنسان مثل الوقت والساعة واليوم أو بالتاريخ مثل القرن والدهر، بل أيضا بدوران الأرض حول نفسها أي بالزمان الطبيعي أو الجغرافي، دورة النهار والليل، والصباح والمساء، والضحى والعشاء، والفجر والعصر، والشروق والغروب. يفهم حقيقة كزمان طبيعي أو مجازا كصورة فنية مثل الشروق والغروب في المعارف والأذهان والعقول والقلوب والحضارات كما يفعل الفلاسفة والصوفية.وقد ورد لفظ «الفجر» في القرآن الكريم ست مرات... اثنتين للقسم نظرا لعظمة الفجر ورونقه وجماله ودلالته «وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ، هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ». فهو فجر و احد وليال كثيرة... فجر متفرد... لكل فجر بهاؤه وطلعته في حين تتكرر الليالي، وهو وتر أي مفرد، والليالي شفع أي مزدوجة. يطلع لحظة، والليل ممتد. وهو نهاية الليل وبداية النهار، لحظة بين زمانين ممتدين «سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ»، ويسبقه نوم وهدوء واستكانة واطمئنان وسلام، ويتبعه يقظة ونشاط وحركة وقلق وجهاد، ومرتين اثنتين لقراءة القرآن، فإذا كان الليل للصلاة فإن الفجر لقراءة القرآن «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ»، فصوت القرآن نغم وسحر في هدوء الليل وصمت النائمين، يدخل إلى القلب مباشرة، يسمعه القاصي والداني، الناس والملائكة، الإنس والجن، البشر والله «إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا». ومرة واحدة للصلاة «مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ»، إشارة إلى وقت الراحة وخلع الملابس ليلا في الظلام وظهرا اتقاء للحر دون حرج من الأطفال غير الكبار، ومرة واحدة للصوم إعلانا عن نهاية الليل وبداية النهار، والكف عن الطعام والشراب وبداية الصوم، انشقاق النور من الظلام، حقيقة ومجازا «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ». فالفجر علامة فاصلة بين لحظتين، وفعلين وسلوكين، من الطبيعة إلى الإرادة، ومن الإشباع إلى الامتناع، ومن الأرض إلى السماء، ومن الخلق إلى الخالق.
وهو نفس اللفظ الذى اشتق منه لفظ «فجّر» و«تفجير» للماء من الأنهار والبحار والينابيع والعيون «إحدى عشرة مرة». انبثاق النور من الظلام لحظة الفجر مثل انفجار الماء من الأرض، وهي ليست استحالة كما يظن الكفار «وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا»، بل هي ممكنة بفعل الإيمان، فقد فجر موسى بعصاه البحر «وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ». وفجر من الصخر ينبوعا. وجعل الله في الأرض اليابسة أنهارا وعيونا جارية دافئة، وفي الجنة أنهار وعيون مثل الأرض، ومن علامات الساعة تفجير البحار وبعثرة القبور «وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ»، فالماء قوة تتولد منها الكهرباء، وتدار بها الآلات، وتنظف بها الأرض والأجساد... يروي الظمآن، ويزرع الوديان، فالماء من الأرض لحظة الري كالنور من الظلام لحظة الفجر، وهي صورة الإسلام عند محمد إقبال وسيد قطب، تفجير الحياة من الصخر كما فعل الكليم موسى عند إقبال. وكان الإسلام حركة إبداعية في الفن والحياة عند سيد قطب. وعلى النقيض، هو نفس اللفظ الذي يشتق منه لفظ «الفجور» أي خروج الفعل على المنهج القويم، وانحرافه عن الطريق السليم، فالخروج ليس فقط في الطبيعة، خروج النور من الظلام في لحظة الفجر أو تفجير الماء من الأرض في العين والينبوع وسريانه في البر والبحر بل أيضا خروج الفعل عن التقوى مثل الفسوق، فسوق الحب. والفجور كفر وجحود، والالتزام إيمان وتقوى، والأصل هو المعاني الطبيعية التي يهتدي بها الإنسان في سلوكه وأفعاله.ونفس المعنيين الإيجابي والسلبي للفجر، تفجير المياه وفجور السلوك موجودان في الحياة الشعبية في عادة الاستيقاظ مبكرا والارتباط بالشمس لدرجة عبادة الشمس والإله آتون في الدين المصري القديم، والغناء للجو الصحو دون السماء الملبدة بالغيوم. ويحب الأجانب من بلاد الشمال الجو الصحو في بلاد الشرق والجنوب، وعلى النقيض من هذه الصورة الإيجابية هناك صورة سلبية للإقطاعي الذي ينام حتى الظهر، والعاطل الذي لا يستيقظ عند نور الفجر. وهناك زوار الفجر للقبض على الأبرياء، ولصوص الفجر للسطو على ممتلكات الناس، وحروب الفجر للعدوان على الآمنين، والإنسان قادر على التمييز بين الصورتين واختيار أيهما أقرب إلى القرآن الكريم والسلوك القويم.* كاتب ومفكر مصري