تجارة جحا بالبيض!
لو أن «حزب الله» لم يحول صفقة تبادل رفات الشهداء والأسرى الى انتصارٍ إلهي جديد لما ظهر بمظهر الذي يصر على أن هناك، نتيجة المعركة المحتدمة منذ عام 2005، غالباً ومغلوباً وأنه على المغلوب أن يدفع الثمن، في حين أن من حق الغالب أن يقبضه، وهذا ستكون انعكاساته سيئة وسلبية، بعد «أن تبرد الحديدة» ويتراجع وهج هذه الصفقة التي ليس صحيحاً أنها «أم المعارك»، أو أنها قادسية «الرضوان»، أو أن ما فعله حسن نصرالله «سيد المقاومة» لم يفعله الأولون.إن ما أراده حسن نصرالله، بتحويل «الحبة إلى قبة» وتصوير إطلاق سراح خمسة أسرى، بعضهم أُسر في حرب الانتصار الإلهي في يوليو عام 2006 واستعادة رفات عشرات الفلسطينيين والعرب، الذين كان يجب عدم إخراج رفاتهم من فلسطين لأن فلسطين عربية وليست إسرائيلية، هو إعادة تلميع نفسه وتلميع حزبه بعد كارثة غزو بيروت الغربية واستخدام سلاح «المقاومة»، الذي يوصف بأنه مقدس ضد الأطفال والنساء والاعتداء على كرامات أهل منطقة عروبية عريقة.
إنه لا شبيه لهذا الانتصار، الذي أكد أن «حزب الله» ماضٍ في صيغة الدولة داخل الدولة، وأن دولته هي صاحبة القرار وأكبر من الدولة اللبنانية، إلا: «تجارة جحا بالبيض». فصفقة «الرضوان»، تيمناً بالاسم الحركي للقائد العسكري لهذا الحزب عماد مغنية، التي دفع لبنان ثمنها 1200 قتيل ونحو ستة مليارات دولار ونحو خمسة آلاف جريح وأكثر من ثلاثمئة ألف مشرد اقتصرت على إطلاق سراح خمسة أسرى والإفراج عن جثث عدد من العرب والفلسطينيين الذين ذهبوا الى الاستشهاد رغبة في دفنهم في ثرى فلسطين العربية. إن أول تبادل أسرى بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية كان في النصف الثاني من عقد ستينيات القرن الماضي حين وقع في الأسر أول من التحق بحركة «فتح» في الداخل كفدائي مقاتل، وهو محمود بكر حجازي الذي كان قبل ذلك رقيباً في الحرس الوطني التابع للقوات المسلحة الأردنية «الجيش العربي» المرابطة في الضفة الغربية، إذ تمكنت إسرائيل من أسره خلال توجهه إلى تنفيذ عملية في الأرض المحتلة منذ عام 1948 التي أصبح اسمها إسرائيل بعد إعلان قيام دولة إسرائيل الحالية على هذا الجزء من فلسطين في عام 1948. بعد أسره بنحو عامين استطاع الفدائيون الفلسطينيون اختطاف حارس زراعي اسرائيلي في عملية انطلقت من الجنوب اللبناني في اتجاه المستوطنات الإسرائيلية المجاورة في شمالي فلسطين، وهكذا وبعد مفاوضات شاقة عبر وسيط ثالث ساد الاعتقاد أنه روماني في عهد الرئيس الأسبق نيكولاس تشاوشيسكو وبعد إصرار القيادة الفلسطينية على مبدأ: أن الأسير الإسرائيلي ليس أغلى من الأسير الفلسطيني جرت أول صفقة تبادل أسرى بين الفلسطينيين والإسرائيليين في تاريخ المقاومة الفلسطينية وعلى أساس «أسيرٌ مقابل أسير». بعد ذلك وبعد نحو خمسة عشر عاماً جرت الصفقة الثانية حين تم الإفراج عن كل أسرى «معتقل أنصار»- الذي أقامه الإسرائيليون في الجنوب اللبناني- وكان عددهم بالمئات، إضافة إلى أسرى فلسطينيين وعرب آخرين كانوا يقضون فترات أحكام طويلة في السجون الإسرائيلية مقابل الإفراج عن عدد من الجنود الإسرائيليين استطاع فدائيو «فتح» اختطافهم من مناطق لبنانية كانت لاتزال تحت الاحتلال الإسرائيلي بعد غزو عام 1982، وتم نقلهم إلى مخيم نهر البارد بالقرب من مدينة طرابلس في شمال لبنان حيث كان الشهيد خليل الوزير «أبو جهاد» يقود قوات منظمة التحرير التي أُخرجت من بيروت ولاحقاً من مناطق البقاع اللبناني. بعد ذلك جرت صفقة أسرى أخرى حين تبادلت الجبهة الشعبية- القيادة العامة- بقيادة أحمد جبريل مع إسرائيل مئات الأسرى الفلسطينيين من بينهم المناضلة الفلسطينية زكية شموط وزوجها محمود شموط مقابل عدد من جنود الجيش الإسرائيلي الذين كانت هذه الجبهة قد اختطفتهم من منطقة جنوبية لبنانية كان يحتلها الإسرائيليون نتيجة هذا الغزو الآنف الذكر. لذلك ومادام أن هذه الصفقة الأخيرة بين «حزب الله» وإسرائيل ليست هي الصفقة الأولى، وأنها ليست أكبر الصفقات لا من حيث عدد الأسرى الفلسطينيين والعرب الذين تم إطلاق سراحهم ولا من حيث حجم إنجازاتها السياسية للقضية الفلسطينية والصراع العربي- الإسرائيلي، فلماذا إذن هذا التوظيف السياسي كله وهذا الصخب الإعلامي غير المسبوق؟ ألا يعني هذا أن حسن نصرالله استغل عملية التبادل هذه لإعادة تأهيل نفسه وحزبه لاستئناف معركة المخطط الإقليمي التي فجرها، بدعم اللاعبين الإقليميين الذين يقفون وراءه، منذ عام 2005 بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي الشهير رقم (1559) والتي كان اجتياح بيروت الغربية في السابع من مايو الماضي آخــر فصولها المأساوية؟! *كاتب وسياسي أردني