وصية محمود درويش: اكرهوهم...
هذه الكلمات ليست مرثاة، لأنني لا أجيد هذا الفن، ولأن محمود درويش لن يرحل عنا لكي نرثيه، فهو فكرة باقية ما بقي الزمان. عرفت محمود درويش قبل أن أقابله في بداية السبعينيات في بيروت، فقد سبقته إلينا وإلى العالم العربي قصائده المليئة بالحب وبالحنان وبالتمرّد وبالدعوة إلى مقاومة إسرائيل، تواصلنا بعد هذا التاريخ في المهجر: تونس، وباريس، ولندن وعمان إلى أن التقينا آخر مرة في بيروت.كنت إلى جانب سريره في مستشفى باريس، استفاق من المخدر بعد عملية شرايينه المتصلبة الأولى في بداية التسعينيات، قال: أجريت حواراً مع الموت وأقنعته بأن يمهلني كي أرى فلسطين وأمي مرة أخرى، وعاد محمود إلى «فلسطينهم». ولعل هذا ما أرجع التصلـّب القاتل إلى شرايين قلبه المقهور. قبل ظهور اتفاق «أوسلو» الشهير على سطح الإعلام، جاءني محمود إلى منزلي في باريس حوالي منتصف الليل محبطاً وقال والدمعة في عينه: لقد حررتني «أوسلو» من عبودية السياسة، لكن للأسف استُعبدت فلسطين لفترة طويلة أخشى أن تكون إلى الأبد. ثم كتب رسالة استقالته التي بعث بها في اليوم التالي إلى أبو عمار ولحق به الأخ الصديق شفيق الحوت.
بالنسبة لي فإن محمود درويش يشغل حيزاً كبيراً من ذاكرتي وذكرياتي من مرحلة الضياع الكبير في فترة الحرب الأهلية في لبنان إلى مرحلة الضياع الأكبر بعد اتفاقات «اوسلو» التي كان من أشدّ معارضيها رغم قربه من بطليها ياسر عرفات ومحمود عباس.في عام 1973 أغارت اسرائيل على النبطية وجوارها في الجنوب اللبناني، وبناءً على إصراره زرنا منطقة العدوان قبل أن تعود الطائرات الإسرائيلية إلى عنابرها. في اليوم التالي جاءني وبيده عدة وريقات ورجاء واحد، الوريقات كتب عليها «قصيدة نثرية»، والرجاء أن تـُنشر في الصفحة الاخيرة في مجلة «الدستور» اللبنانية التي كنت رئيساً لتحريرها تحت اسم مستعار هو «كوثر» قال: هذا ليس بمقال، ولا بقصيدة. إنها عبارة عن وصية... وصيتي. ونـُشر المقال- الوصية في 21 اكتوبر 1973. واليوم أعيد النشر تحية واجلالاً لذكراه، وكأن هذه الوصية كتبت بالأمس وليس قبل 35 سنة:«أكثر مما كان، يجب أن نكرههم الآن. إنهم أعداؤنا... أعداؤنا... أعداؤنا. منذ ربع قرن، وهم يمنعوننا من ممارسة المحبة. لقد اغتالوا قدرتنا على الانصراف عن كراهيتهم، لأنهم بوجودهم -المعنوي والعملي- بنوا قلاع الكراهية والظلم في الشرق العربي الأمين المحب للسلام... الطامح إلى الخروج من التخلف نحو فرص البناء والعمل السلمي ومحاذاة القرن العشرين.لقد أجهضوا، أكثر من مرة، أحلامنا السليمة الصاعدة نحو تأمين حياة أكثر سعادة لنا ولأبنائنا.لقد عرقلوا، أكثر من مرة، جهودنا الرامية إلى تدشين حياة جديدة نتخلص فيها من آثار العبودية الاستعمارية الأمية، والتخلف والجهل. وكانوا، دائماً يكدسون العقبات أمام تحقيق مطامحنا الإنسانية السلمية، ويستنزفون موارد حياتنا ويصرفوننا إلى التوقف عن التقدم. كانوا، ولايزالون، عقبة أمام ممارساتنا الإنسانية والحضارية. كانوا ولايزالون، يمنعوننا عن مواكبة العصر، لأنهم يمتصون طاقاتنا على البناء والتقدم.لقد أرغمونا على التوقف أمام نقطة فاصلة: لا يمكن أن نستأنف طاقتنا على العمل والبناء طالما أن الأعداء هنا على أرضنا وأعز أحلامنا، فهذا هو دورهم. وهذه هي مهمتهم ليس الاعتداء على كرامتنا الوطنية والقومية وابتلاع أجزاء واسعة من أراضينا- ليس هذا فحسب، وإنما مهمتهم أيضاً هي عرقلة بناء حياتنا الاجتماعية الجديدة، ومنعنا من التفاعل مع قوانين التطور الطبيعي للشعوب.لقد أقنعتنا شراهة مطامعهم الوحشية وتماديهم في إذلالنا بأننا عاجزون -وسنبقى عاجزين- عن ممارسة حياة السلم ما لم نخض الحرب ضدهم... وأقنعتنا تجربة التعامل معهم بأننا لا نستطيع الاستمرار في صيانة تطورنا الإنساني الطبيعي، ما لم نخض الحرب لصيانة وجودنا القومي أمام هجمة أعدائنا- الإسرائيليين الصهيونيين المدعمين بأشد ما يكنه لنا الغرب الاستعماري- بقيادة آفة القرن العشرين (الولايات المتحدة الأميركية) من أدوات الشر ومشاعر العنصرية. لا يبنى الوطن الكبير، إذا لم يتحرر الوطن الصغير. إن شرط جدارتنا بأوطاننا ومستقبلنا يتحدد بقدرتنا على خوض المعركة الشريفة العادلة ضد من يهددون هذا الوطن- أرضا وبناء ومستقبلا. ما عدنا قادرين على الصبر، والانصراف إلى شؤوننا اليومية... ما عدنا قادرين.لينصب كل العرق... كل الدم... كل الجهد... كل القلق كل الطموح في هدف واحد: تحرير كرامتنا الوطنية والقومية من هؤلاء الأعداء... القادمين من كل جهات الأرض لمنعنا من أن نكون متشابهين مع سائر الشعوب، وصدنا عن الانطلاق من أسر الماضي المتخلف نحو المستقبل الرحب.إنهم أعداؤنا... أمس واليوم وغداً... إنهم أعداؤنا طالما أنهم اختاروا أن يصدونا عن امكانيات النمو والتطور... إنهم أعداؤنا طالما أنهم اختاروا أن يعيشوا على أنقاضنا... إنهم أعداؤنا طالما أنهم اختاروا أن يمنعوا أطفالنا من الفرح... إنهم أعداؤنا طالما أنهم اختاروا تحويل طاقة البناء فينا إلى طاقة تدمير... إنهم أعداؤنا وسنظل دائما- كما كنا- نقول لهم: لا. لا للسلام معهم. لا للتفاوض معهم. لا للاعتراف بما يدعونه من حق. لا للتردد في مكافحتهم. لا لنواميس الكراهية التي فرضوها على وطننا الواسع الكبير.وهم- هم أصل الكراهية وناموسها ودستورها الكريه فلنقتلع هذه الأصول من أراضينا الطيبة.ولن نكون جديرين بالحياة والحب، إلا إذا كنا قادرين على تحطيم حصون الكراهية والموت التي أقاموها على أراضينا.فلنكرههم أكثر، لكي نحب الحياة أكثر ولنكرههم... لنكرههم، لكي نكون أكثر قدرة على الحب والحياة.اكرهوهم يا عرب... لكي تعرفوا طعم حب الوطن الحقيقي... اكرهوهم»! وهنا ينتهي حديث محمود درويش ووصيته.* كاتب لبناني