فريضة الحج لها رونق خاص لا يستشعرها إلا من يحلّق في أجوائها الروحانية عند أداء المناسك، وفي كل محطة تتجدد الذكريات الإبراهيمية التي ترسم حكمها وفلسفاتها على أرض الواقع، فتربط الماضي بالحاضر عبر سلسلة عبادية محورها الانصياع لأوامر الله -تعالى- ولم يَزد التطور العمراني والتوسعات الجبّارة للمشاهد الشريفة إلا هيبة ووقاراً ويضفي أبعاداً جديدة للتلذذ بمعاني الحج خصوصا في مفهومه الأممي وشموليته العالمية.

Ad

فإذا كانت الكعبة المشرفة هي قبلة المسلمين وإليها تشد الأفئدة والقلوب من كل نقاط العالم في أوقات الصلاة، فإن الصورة المصغرة لهذا الارتباط العضوي والوجداني تتجلى بوضوح عند الصعود إلى سطح المسجد الحرام والتأمل ببيت الله، وهو محاط بجموع المسلمين، وهم يطوفون حول الكعبة المشرفة في حركة دائرية لا تقف ولا تتباطأ على مدار الزمن، تلهج خلالها الألسن بذكر الرحمن، وتتضرع بالدعاء والبكاء بجميع لغات العالم التي تعرفها البشرية، ويحاط جميع الطائفين بحلقات متواسعة من المصلين في حركة أخرى ديناميكيتها الركوع والسجود لترسم لوحة أخرى ناطقة بالجمال التلقائي والتنظيم العفوي.

وكلما تتنقل عبر المشاهد الأخرى على صعيد عرفات أو على أرض مزدلفة أو على امتداد أرض منى تتجلى صور جديدة لا تقل جمالاً في بعدها الوجداني، حيث تتدفق الحشود البشرية والمليونية لتعزف ألحاناً مشتركة من الشعائر العبادية، وأيضاً بكل تلقائية وعفوية ومن دون تحضير مسبق أو توزيع للأدوار، تلك الجهود التي تبذل الدول والحكومات من خلالها أموالاً طائلة وفترات تدريب طويلة لرسوم لوحات متحركة جماعية لا يتعدى أداؤها بضع ساعات في أحسن الأحوال.

ومما يثلج الصدر أيضا أن هذه العبادات العملية تعكس التطبيق الفعلي لمفهوم العدالة والمساواة بين المسلمين، فلا يكون أمام ربّ العزة والجلالة فرق بين الكبير والصغير في المقامات الاجتماعية والسياسية، فتُركن الحلل والتيجان وتتجرد الأبدان من الأوسمة والنياشين، ويتساوى أغنى رجال العالم بأكثر الناس فقراً في اللباس وفي أداء الواجب، ومهما كانت مدة الشعائر قصيرة وآنية إلا أنها كافية لكسر هالة الكبرياء والجبروت، وتكون الرسالة بليغة أنه مهما ارتفعت الهامات وازّينت المقامات وعاشت العقول في أوهام العظمة إلا أن تلك الرؤوس تجد نفسها صاغرة مطأطئة أمام كمال العظمة الإلهية، لعل وعسى أن تعيد هذه الأجواء صحوة الضمير وقيمة الإنسان الحقيقية التي تقدر بالعمل الصالح والعبودية الحقة لرب العالمين.

وفي جميع الأحوال قد تكون فريضة الحج إحدى العبادات الواجبة عل كل مسلم استطاع إلى ذلك سبيلاً ولو في العمر مرة، ولكن تتجدد هذه المناسبة وبتلك الصور رائعة الجمال وديمومتها المتكررة سنة بعد أخرى حاملة رسالة عنوانها أن الحياة مستمرة ودائمة الحركة وقوام تلك الحياة العنصر البشري، ورسالة أخرى مضمونها أن المسلمين دون غيرهم يمتلكون هذا الرباط المشترك ليس فقط على المستوى النظري إنما على صعيد التطبيق العلمي والالتقاء على أرض الواقع في وقت واحد ومكان واحد يستشعر الجميع بأن تسميتهم الإنسانية واحدة، ومصدر قوتهم وحدة الزمان والمكان ومرجعيتهم الإيمانية، أما أبلغ التوحيدات التي تشع في أجواء الحج فتكمن في أن الإسلام هو دين المسلمين جميعهم مهما تنوعت مللهم ومذاهبهم واختلفت الاجتهادات والمدارس الفكرية والفقهية فيما بينهم، فلا يملك أحد حق فرض آرائه ومعتقداته بالتفاصيل التي يؤمن بها على الآخرين، ويسفّه عقول الآخرين أو يصل الأمر كما في بعض الأحيان إلى إخراج من يخالفوه الرأي والموقف من ملة الإسلام.

ومن المحزن دائماً، وبعد لمّ هذا الشمل وفي حضرة رب العالمين وفي رحاب بيته المعمور، أن يبادر بعض المسلمين إلى دق إسفين الفتنة والخلاف والتباعد والتباغض من جديد، وفور انتهاء موسم الحج، وبعد تجليات الصور الجميلة في مشاعر الحج التي تبهر وتسمو بالقلوب والأرواح إلى فضاء لا متناهٍ من الغبطة والارتياح النفسي.

ونسأل الله -تعالى- الهداية والتوفيق للمسلمين قاطبة والمزيد من السداد والنجاح لكل من يحمل المشاعر الصادقة والنبيلة في لمّ شتات الفرقة والتباعد بين المسلمين، ونسأله أن ينصر المتصدين لدعاة الفتنة ومخربي لوحة الحج التي تشرق شمسها عاماً بعد عام، إنه على كل شيءٍ قدير.