الحوار الوطني الفلسطيني نحو الحفاظ على الطابع الديمقراطي التعددي

نشر في 23-06-2008
آخر تحديث 23-06-2008 | 00:00
 ماجد الشيخ في وضع استثنائي يتطلب جهداً استثنائياً غير مسبوق، ومعالجة جادة وصادقة، بعيداً عن شعارات التعمية السابقة والنزوع الفئوي، يقف الوضع الوطني الفلسطيني اليوم على محك النجاح أو الفشل في مواجهة مهام تصليب جبهته الداخلية، وما تطرحه وقائع الصراع ومجرياته من تحديات، في ظل انعطاف مهم في واقع القوى الحزبية الإسرائيلية، التي بات بعضها يجاهر بالدعوة الى تجاوز الاتفاقات السابقة ونقضها كلها مع السلطة الفلسطينية، والاتجاه إلى فرض وقائع على الأرض، تنسف كل منجزات الوضع الوطني، معيدة إياه إلى محورة حركته السياسية في نطاق حكم ذاتي بصورة جديدة، تتجاوز الصيغ السابقة جميعها بما بات عليه وضع المناطق المحتلة عام 1967 من تكثيف للاستيطان والمعازل والكانتونات وجدار الفصل... إلخ من مجريات التقسيم القسري والضم الكيفي، والتهويد المعلن والمخطط له للعديد من المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1948 وعام 1967 بما فيها القدس وغور الأردن والنقب والجليل والمثلث. وما بلغته الحالة الوطنية الفلسطينية من انقسام وشرخ عمودي، طاول المؤسسات الوطنية كلها المؤطرة وغير المؤطرة، كما طاول المجتمع الأهلي في انقسامه الأفقي، وما يشيعه من حالات انفعالية، بات يستدعي تفكيراً عقلانياً حكيماً، هدفه الحد من التآكل الداخلي ووقف انتشار ثقافة الكراهية والعنف في ثنايا الوضع الوطني الفلسطيني.

وإذ تتجاوز مجريات ومعطيات الوضع الوطني الآن في ما آلت وتؤول إليه من وضع شبه كارثي، فإن الدعوة إلى الحوار الوطني الشامل والمبادرة التي أطلقها الرئيس محمود عباس، باتت أكثر من حاجة وضرورة وطنية للخروج من عنق الزجاجة. لكن الأهم دخول أروقة الحوار بلا شروط مسبقة، وخوض غماره بجديةِ مَن يستهدف إنجاحه، للوصول إلى نتائج إيجابية، وإيجاد السبل السياسية الكفيلة بتمكين الوضع الوطني الفلسطيني من مواجهة الحصار الخانق، واستعادة حيوية استئناف مهام الكفاح الوطني في مواجهة خطط الحكومة الإسرائيلية الغارقة في إشكالات وضعها الجديد، الناشئ بعد سلسلة التحقيقات مع رئيسها وانقسامها في هذا الشأن، واستمرار رهانها على الانقسام الفلسطيني للمضي في تعزيز اتجاهات فرض منطقها ومنطق الإدارة الأميركية تجاه حلول التسوية.

ولعل الفرصة التي تستدعيها دعوة الحوار، تكون دافعاً لجعله معمقاً وشاملاً، بما يفضي إلى تحويله إلى حوار استراتيجي لا يقتصر على القضايا التكتيكية أو الخلافية الراهنة. وهذا يتطلب إيجاد لغة حوار منتجة تتجاوز حدود القواسم المشتركة، وتضمن خلق آليات لتوافق وطني مديد بين مكونات المنظمة والنظام السياسي، وبما يفضي إلى إعادة تشكيل الحكومة (حكومة وحدة وطنية موسعة) على قاعدة استعادة وحدة النظام السياسي وانسجامه، مما يمهد عملياً وفعلياً للبحث في تفعيل وتطوير مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية (م. ت. ف) واستعادتها وحدتها المؤسسية والسياسية والتنظيمية بضم وانضمام الأطراف المبعدة والمستبعدة كافة.

وإذا كان الجميع يتفق الآن على ضرورة صياغة (م. ت. ف) ومؤسساتها، بتفعيلها وتوسيع قاعدة المشاركة الوطنية في إطارها، بما يتناسب والواقع الراهن للتجربة الديمقراطية، بانتهاء صيغ «المحاصصات» السابقة، فإن توجهات مناقضة المنظمة والتصادم معها على قاعدة الاشتباك السياسي والتنظيمي، تحمل من المخاطر أكثر مما تحمل من محاولة الحفاظ على الثوابت المبدئية لهذا الفصيل أو ذاك، ودخول «حماس» أو غيرها من الفصائل المبعدة والمستبعدة من مؤسسات المنظمة قبل أو بعد صياغتها، لا يلغي مواقفها الثابتة، ولا يصادر حقها في الاختلاف بفعل وجودها داخل النظام السياسي أو مؤسسات المنظمة، في ظل الضرورة القصوى للحفاظ على مرجعية (م.ت.ف) والاحتفاظ بها قائداً رمزياً وواقعياً شرعياً وحيداً، لكفاح شعب من المفترض أن تتحد كل مكوناته وتأتلف في إطارها الواحد الموحد، لإنجاز مرحلة من مراحل تحرير الوطن من الاحتلال، فالمنظمة هي خيمة المشروع الوطني وائتلافه الجامع لأطراف العمل الوطني الفلسطيني كافة. لهذا يجب أن تبقى عنوان المشروع الوطني وعماد شرعيته، الشرعية التي خيضت من أجلها صراعات دامية أحياناً ليس مع الأعداء فحسب، بل مع الأشقاء أيضاً، ومن داخلها وفي داخلها كذلك، على ما شهدته سنوات ما بعد اجتياح عام 1982.

إن حاجة تفعيل وتطوير مؤسسات (م. ت. ف) وإعادة صياغتها، تشكل إحدى الضرورات السياسية الوطنية، وهذا ما يتجاهله أصحاب الرؤى العدمية ودعاة التمسك اللفظي بتوهمات الأيديولوجيا و«الجملة الثورية» على حساب وقائع السياسة الوطنية، في ما تذهب إليه مواقفهم من تشكيك وعدم استساغة أي شكل من أشكال الحوار الوطني الشامل، وهم لهذا «يتلجلجون» في تصريحاتهم ويذهبون مذاهب شتى من أجل إفشاله، على أن أهمية الحوار وأهدافه، وما يتطلع إليه الشعب الفلسطيني تبقى أكبر وأجل من تصريح هنا أو آخر هناك، يحاول أصحابه وضع العصي في دواليب التوجه نحو رسم سياسات وإيجاد الحلول المسؤولة للمأزق الوطني في اللحظة الراهنة.

ولهذا تشكل دعوة الحوار في حد ذاتها، إحدى أبرز الضرورات الوطنية اللازمة والملزمة، لكل الحريصين على معالجة الوضع الوطني الفلسطيني، بعد ما بلغه من تأزم أضحى يفرد جناحيه على كل مناحي الحياة، لكل أبناء الشعب الفلسطيني، في الداخل كما في الخارج، وهذا ما يرتب وجود رؤية أوضح، وضرورة توفير كل شروط المسؤولية الوطنية لإطلاق حوار منتج، يساهم المجتمع الأهلي فيه بطاقات مهمة، طالما جرى استبعادها حتى الآن.

بعد كل هذا... فإن التجربة الديمقراطية الفلسطينية الغضّة والهشّة، ما عادت تحتمل أي خروج عن إطار «اللعبة»، وهي تدخل اليوم محكاً أكثر جدية، ليس في ما تشهده التجربة داخلياً، ولكن في ما يترصدها إسرائيلياً ودولياً من استهدافات، يمكن أن تؤدي بها إلى انكسار واسع، لن يشمل هذه المرة منطوق التحالفات بين القوى على اختلافها، بل سيشمل الوضع الوطني برمته في إطار حركته التاريخية، وهي أحوج ما تكون إلى برنامج قواسم مشتركة؛ يتفق الجميع على طابعه الائتلافي، بوصفه الخط السياسي الناظم لحركة الشعب الوطنية، ونظامها السياسي، في توجهاتهما وسياساتهما الداخلية والخارجية على حد سواء، وبما يضمن الحفاظ على الطابع الديمقراطي التعددي للمجتمع الفلسطيني، وتلك في هذه اللحظة الحاسمة مهمة الحوار المركزية في أبعاده الاستراتيجية الشاملة، لا في أبعاده الفوقية والخلافية الراهنة.

* كاتب فلسطيني

back to top