رؤية ثقافيّة لفوز أوباما التاريخي

نشر في 21-11-2008
آخر تحديث 21-11-2008 | 00:00
الفوز التاريخي الذي حققه باراك أوباما في انتخابات الرئاسة الأميركية، ليس حدثاً سياسياً فحسب، بل رؤية ثقافية شاملة، ومخاض سبقه تاريخ طويل من نضال الزنوج الأميركيين لنيل حقوقهم المدنية والاجتماعية.
 ناصر الظفيري لن أدّعي أن بإمكاني اختصار تاريخ نضال السود في أميركا الطويل والمؤلم لنيل حقوقهم، لكنني سأحاول أن أقارب بين الفكرة / الحلم وتجسيدها في الواقع.

فوز أوباما التاريخي ليس قفزة في الفراغ توّج صاحبها بجائزة المكتب البيضاوي، بل صراع أمة عاشت في الظل وكان يمكن لها أن تبقى في الظل. أمة فرضت ثقافتها وهويتها (لهجة وموسيقى) وافتخرت بجذورها السوداء وأعادت نشر دين أجدادها (الاسلام غالباً) ليغيّر لوري جونز، الشاعر الشهير، اسمه الى أميري بركة، وهو لوحده بحاجة الى أكثر من مقال.

صراع أوباما لم يكن صراعاً سياسياً فحسب، بل صراع ثقافي كان موازياً لذلك السياسي.

طرزان القرود

يعرف الذين تابعوا طرزان سينمائياً القصة التي حاول منتجو السينما والتلفزيون تحويلها من رواية عنصرية الى فانتازيا بشرية. لكن حين نقرأ الرواية ثانيةً مستعرين لها مكاناً وزماناً (chronotope) نكتشف أوجاعها، بحسب الناقد الكبير باختين.

نشر إدغار رايس بوروز روايته «طرزان»، فأوجد شخصية يتداولها الناس من المشرق الى المغرب. كان ذلك عام 1914، لكن ما حدث عام 1963 جعل النظرة الى الرواية تثير الريبة. في ذلك العام نشرت الرواية مرة أخرى بالغلاف الورقي (paperback) وانتشرت بطريقة تشبه الهوس في الوسط الأميركي الى درجة أن من بين كل ثلاث روايات بأغلفة ورقية بيعت رواية «طرزان»، وأطلق عليها حينها «طرزان الأغلفة الورقية».

في ذلك العام أيضاً أخذت شهرة رجل الدين مارتن لوثر كينغ وخطاباته تنبئ باحتمال وقوع صدام بين الرجل الأبيض وغريمه أو شريكه على الأرض الرجل الأسود. زجت الأوساط الإعلامية بالرواية التي مضى على نشرها أكثر من نصف قرن لتصوّر فوقية الأبيض وقدراته الخارقة. كانت الصورة النمطية للرجل الأسود القادم من أفريقيا صورة منفرة لأشخاص يأكلون اللحم البشري وعلاقة القردة في الحضارة تفوق علاقتهم بها.

كانت القردة تتكلم في الرواية وتعبر عن نفسها ويستطيع طرزان ابن القردة بالتبني التفاهم معها وحل مشاكلها وصراعاتها. في المقابل، أُسكِت الصوت الأسود ولم نجد في الرواية أي رجل أسود بإمكانه الحديث أو التعبير عن نفسه. أوحى هذا الخطاب الإسكاتي بالترتيب الحضاري التالي: الأبيض متفوقاً والقردة متفهمة والأسود سفاحاً قاتلاً صامتاً. حين دخل طرزان كوخ والديه، استطاع أن يقرأ ويتعلم وحين دخله الرجل الأسود عاث فيه فساداً.

أنقل هنا من نسخة 2003 ص70 وصفاً للرجل الأسود الذي تولّى الراوي الحديث نيابة عنه: «جباههم كانت موشومة بثلاثة خطوط متوازية وملوّنة وعلى صدورهم ثلاث دوائر. أسنانهم الصفراء بردت لتصبح حادة، وشفاههم المهدلة أضافت الى مظهرهم قسوة متوحشة... لم يكن أي منهم قد التقى «بإنسان» من قبل أن يروا طرزان». وضعتُ الأقواس حول إنسان للتأكيد أن الكاتب لا يراهم أناساً أصلاً. أما صورة طرزان الأبيض فتبدو مغايرة، نقرأ في ص 104: «جسده المتناسق و{المستقيم» مفتول العضلات كأفضل ما يكون عليه المصارع الروماني ومنعطفات جسده الرائعة كإله إغريقي توحي من النظرة الأولى بالتمازج الرائع بين القوة والمرونة والسرعة». مرة أخرى قوّست كلمة مستقيم لأن الرواي يرى أن الرجل الأسود يسير بانحناءة وكأنه يقترب من السير على أربع.

كانت تلك المقارنات التي امتلأت بها الرواية بين الرجلين والتي عمل كتاب سود كثيرون على تغييرها بمساعدة عدد لا حصر له من المثقفين البيض الذين رفضوا التمييز العنصري ورافقوا الأسود في رحلة نضاله الطويلة كإنسان يقع في الظل. بعد خمس سنوات وتحديداً عام 1968، أطلق أحدهم الرصاص على لوثر كينغ.

التعليم

في الكتابة السردية لفريدريك دوغلاس والتي نشرت عام 1854 يقول: «عرفت أن التعليم هو الذي يبقي الرجل الأبيض سيداً وانعدام التعليم هو الذي يبقيني عبداً».

حين حاولت سيدته الجديدة أن تعلمه أحرف الهجاء، دخل عليها زوجها ليخبرها أن ما تفعله هو أمر فظيع وغير آمن. يقول الزوج: «اذا أعطيت الزنجي بوصة سيطلب ذراعاً، يجب ألا يتعلم الزنجي شيئاً سوى طاعة سيّده وأن يفعل ما يؤمر به. التعليم يفسد أفضل زنجي في العالم. الآن، إذا علمت هذا الزنجي كيف يقرأ، لن نستطيع الاحتفاظ به، وليس بإمكانه أبداً أن يبقى عبداً، ستصعب إدارته ويصبح بلا قيمة. وكذلك بالنسبة إليه، سيشعر بالانفصال وعدم السعادة» ص39.

توقفت السيدة فعلاً عن تعليم الأسود، لكن كلمات السيد لم تفارق ذهن الغلام. كان دوغلاس يبحث عن طريقة للتعليم ولم يجد سوى فقراء البيض أقرانه، يدفع لهم نصف وجبته مقابل كل ساعة يعلمونه بها ما تعلموه في مدارسهم. لقد استبدل خبز معدته بخبز المعرفة. كانت تلك خطوته الأولى نحو المعرفة ثم الحرية.

تشكلت في أميركا منظمات التحرّر من العبودية وشهدت مناطق الشمال هجرة مضادة من عبيد الجنوب نحو حريتهم. حتى استطاع المحامي وأبرز مطالب بحرية العبيد إبراهام لنكولن، الرئيس السادس عشر وأول رئيس جمهورية لأميركا، أن يضيف ما عرف بالقانون الثالث عشر للدستور والذي أقرّ حرية العبيد في أميركا عدا أجزاء متفرقة من الولايات... كانت خطوة نحو التحرر الكامل. يرى بعض قراء التاريخ أن الرئيس لنكولن حرّر العبيد، فيما يرى آخرون أنه كان يبحث عن أيدٍ عاملة رخيصة للثورة الصناعية في الشمال. مهما اختلفت الآراء، لقد سمحت هذه الخطوة الشجاعة بتعليم أيدي السود وعقولهم.

السيمفونيّة السوداء

أنتجت العقول السمراء شعراءً كباراً يضاهون بشاعريتهم أقرانهم البيض أمثال هيوز الذي ترجمت قصيدته «أنا أيضا»، التي جاءت رداً على قصيدة والت ويتمان «أغني نفسي» من ديوانه « أوراق العشب».

قدّم هيوز الشخصية السوداء المقهورة بمثالية رفضتها الروائية زورا نيل هيرستون والتي شكلت مع هيوز وآخرين ما عُرف بنهضة هارلم. رأت هيرستون أن الشخصية السوداء لها مثالبها وفضائلها أيضاً. تحت هذا المفهوم كتبت توني موريسون روايتها الأولى «العيون الأكثر زرقة» عن طفلة سوداء يغتصبها والدها الأسود بهندسة لغوية تصويرية لتتوّج السمفونية السوداء بجائزة نوبل تستحقها عن جدارة.

جاءت أليس والكر عام 1982 لتفتح مشهداً جديداً بروايتها «لون قرمزي»، التي أخرجها ستيفن سبيلبرغ فيلماً بالعنوان نفسه ليقدم أوبرا وينفري ممثلة... أوبرا المفتاح الإعلامي الذي فعل أكثر مما ينبغي ليصل أوباما الى البيت الأبيض.

أختم بفولكنر على لسان جيسس الأسود :{أنا لا أستطيع أن أحوم حول بيت الرجل الأبيض، لكنه يدخل بيتي متى يشاء. حين يدخل الرجل الأبيض أكون بلا بيت».

قصيدة للشاعر الأسود لانغستون هيوز 1932 رداً على والت ويتمان:

أنا أيضا

أنا الأخ الأسود

يرسلونني كي آكل في المطبخ

حين يزورهم أحد

ولكنني أضحك

وأتغذى جيداً

لأنمو قوياً

غداً

سأجلس الى الطاولة

ولن يجرؤ أحد أن يقول لي

«كل في المطبخ» حينها

وأيضاً

سيرون كم أنا جميل

ويشعرون بالعار

أنا، أيضاً، أميركا

back to top