وصل الجنرال إلى سدة الحكم في الجمهورية العربية، وعُمد رئيساً، وحاكماً بأمره وما ابتغاه، فهتفت له الجماهير المسلوبة في الساحات، وألقيت الخطب تصف للناس مناقبه ومزاياه، ونظم الشعراء القصائد، ووضع الملحنون النوتات، وتغنى المطربون بحكمته وشجاعته وبأسه، ورقصت الغواني لمجده في الاحتفالات.

Ad

وصل الجنرال إلى سدة الحكم في الجمهورية العربية، فكيف وصل؟

أزاح حاكماً، شرعياً أو مفتئتاً مستجبراً، مستنداً إلى قطعان العسكر وقطعات السلاح تحت إمرته، ومتكئاً على فساد الحكم، والهزيمة المُرّة أمام العدو، أو الانكسار النظري في مواجهة تفوقه واستعلائه، ومستفيداً من خواء الدولة وضعفها وانكفائها على استبدادها وانقطاعها عن المؤسسة والناس، ومعتمداً على سذاجة الجمهور، وتخاذله، واتكاله، واستجارته السرمدية من الرمضاء بالنار.

تربع الجنرال في صدارة المشهد، فكيف سكّن الهواجس؟

أخذت الدهشة الجيران، وتململ أصحاب المصالح، في الداخل والخارج، متحسبين من المساومات الجديدة، وجس أقطاب النظام العالمي النبض، مستشرفين الفرص والحظوظ والمغانم... فأرسل الجنرال إشارات الطمأنة، وبعث أمارات المودة والإخلاص، وأوفد رسل السياسة: «مصالحكم لن تنتقص... وحظوظكم في ازدياد، لا غاية لنا في مقارعة أو نزال... فقط خلوا بيننا وبين فريستنا المبتغاة... شعبنا».

حكم الجنرال دولته، فبأي مؤهلات؟

ثانوية عامة، بمجموع يضعه دوماً على الخط الفاصل بين النجاح والرسوب، ويحرمه من دراسة الجغرافيا أو التاريخ أو التجارة أو العلوم أو السياسة، ويؤهله فقط لدخول أكاديمية «إعداد القادة ومصادرة مستقبل الشعوب»، على أن يستكمل بناء «لا وعيه» بثقافة يستمدها من المجلات الرخيصة وأحاديث الزملاء البالية.

ثمة مؤهلات أخرى؛ ولاء نظري مصطنع، وانتماء للمصلحة وللذات، تعززه عبارات جوفاء عن الوطنية والفداء، ويسنده مديح المنافقين من الأتباع وأصحاب المطامع، وتبرهن عليه نياشين وأوسمة، مُنحت على أسس الأقدمية والطاعة العمياء. وبخبرة عملية، تخمرت في الثكنات، وأينعت في مساقات «تنفيذ الأوامر»، واصطفاء المشوهين وأنصاف الرجال، واستبعاد كل صاحب عقل راجح أو شخصية مبدعة أو اعتداد بالذات، يتنعم الجنرال بالمكانة والسلطة والثروة، كأفضل ما يكون المستثمر: أعلى ربح ممكن، بأقل رأسمال.

فكيف يحكم الجنرال دولته؟

فرز عكسي يستبعد كل صاحب نظر لمصلحة كل أجوف أعمى القلب، فلا يدور الزمان دورته إلا والمجتمع يقف على رأسه، ويفكر بنصفه التحتي، وتجري دماؤه عكس منطق الأشياء؛ فتضمر العضلات، وتتيبس الأطراف، ويضطرب القلب؛ فلا يضخ الحياة إلى الأوردة والشرايين ومعها الأمل، ولا يسكت فيموت الجسد وينهار.

قبضة أمنية حديدية، تجعل «الأجهزة» باباً للخلاص والظهور والنجاح، أو حفرة عميقة تدفن أنبل الناس والأشياء؛ وبهيمنتها على الحيوات السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لا تفسح مكاناً لأي موهوب أو مبدع، ولا تسمح باي مبادرة تتجاوز الخطوط الحمراء، ولا تقبل كل مخالف للخط الأمني- الرسمي، وتطرده إلى حياة أخرى، تتكفل بالتبشير بها «مؤسسة الدين»، التي أممها الجنرال؛ فادعت أنه «ولي الله»، و»خامس الخلفاء الراشدين»، ومن «النسب الشريف»، و»حامي العقيدة» و»إمام الزمان»، وبطاعته نتقرب إلى الجنة ونبعد عن النار.

ماكينة إعلامية خرقاء، تدق طبولها صباح مساء، فتعزف أرذل الألحان، في مديح ملك الزمان وحبيب الشعب؛ فتحول جمهورها إلى جماعة من ذوي الاحتياجات الخاصة... معوقين، بلهاء، يعيشون منومين، في ظل تقويم مصطنع، وأحداث مدعاة، وأمجاد فارغة تجسد عظمة الجنرال وعبقريته وإيمان نظرائه بحكمته وقيادته الملهمة.

سياسة خارجية تعمد إلى شغل المسرح، عبر التسيير الآمن، بدرء المخاطر. سياسة خارجية تفتقد الحلم والخيال، ويعوزها الإيمان بمستقبل الدولة ومكانة الأمة ودورها في الإقليم والعالم؛ فتبخس مقدرات الوطن وعناصر قوته، وترهن إرادته لكل صاحب زمان، وتفرط في المصالح، طلباً للسكوت عن فقر الداخل واهترائه وانتهاك حقوق إنسانه.

إلى أين سيأخذ الجنرال الجمهورية العربية؟

إلى جنرال آخر أكثر منه استبداداً وخطلاً وضيق أفق. وإن أمكن فإلى وريثه «الشرعي»؛ ابن دمه؛ الذي سيدفن خطاياه، ويحفظ صورته من تخاطف العامة وضرب النعال، ويقي سمعته من مداولات المحاكم وأوامر النائب العام، ويضمن السلاسة في توزيع عوائد ثروته المشبوهة، ويقسم الأصول (القصور، واليخوت، والمنتجعات، وحصص الشركات، والطائرات، والسيارات، و...) بين أفراد العائلة «الجملكية». ويدفع فاتورة التواطؤ للسنيدة من الجنرالات، وأفراد عصابة «اختلاط المال بالسياسة»؛ فيضمن لهم أكثر مما جمعوا من مال، وأجمل مما تمتعوا به من سيدات حسان، وأسلس مما أهانوا من قوانين ودساتير وأخلاق، ودولة أكثر رخاوة واهتراءً، وشعباً أكثر عرياً وجوعاً وبلاهة.

وما مصيرنا نحن في دولة الجنرال؟

يا كل قرد... ارقص لأي قرد في دولته.

* كاتب مصري