المضاربون عند المضخات
حتى بضعة أسابيع قليلة، وبينما كانت أسعار النفط لاتزال في ارتفاع عارم، احتدم النقاش بشأن الأدوار النسبية التي يلعبها الأصوليون الاقتصاديون والمضاربة في دفع أسعار النفط نحو الارتفاع. ورغم تراجع أسعار النفط الآن عن الذروة التي بلغتها، فلا ينبغي لنا أن ننسى ذلك النقاش، وذلك لأنه يحمل في طياته عواقب سياسية ضمنية عميقة ليس من الممكن أن يتجاهلها إلا مسؤول حكومي مهمل.بطبيعة الحال، إذا ما كان ارتفاع الأسعار راجعاً إلى عوامل اقتصادية أساسية فهذا يعني أن أسواق النفط تعمل كما ينبغي لها أن تعمل. ولكن إذا كان ذلك راجعاً إلى المضاربة فلابد أن يعمل الساسة والمضاربون على كبح هذا السلوك الذي فرض تكاليف ضخمة وغير ضرورية على الاقتصاد العالمي. والحقيقة أن أصابع الاتهام تشير إلى المضاربة.
بينما يوجه العديد من المساهمين في سوق النفط لومهم إلى المضاربة، فإن أغلب خبراء الاقتصاد يدافعون عن أداء أسواق النفط ويشيرون إلى العوامل الاقتصادية الأساسية. ومن بين الحجج التي يسوقها خبراء الاقتصاد أن ارتفاع الأسعار يرجع إلى ضعف الدولار. ولأن تسعير النفط يتم بالدولار فإن ضعف الدولار يجعل النفط أرخص ثمناً بالنسبة الى المستخدمين في دول أخرى، الأمر الذي يزيد من الطلب العالمي على النفط.والحجة الثانية التي يسوقونها أن ارتفاع أسعار النفط يرجع إلى انخفاض أسعار الفائدة والتوقعات بشأن المزيد من الارتفاع في الأسعار على الأمد البعيد. وطبقاً لافتراضهم فقد تسبب ذلك في انخفاض حجم المعروض من النفط من خلال تشجيع المنتجين على تخزين النفط في الأرض ثم استخراجه لاحقاً.والحجة الثالثة أن المضاربين لو كانوا مسؤولين عن الزيادة في الأسعار لكان ذلك يعني وجود زيادة في المخزون من النفط، وذلك لأن المضاربين لا يستهلكون النفط، بل يخزنونه لبيعه في وقت لاحق. ومادام المخزون من النفط لم يتزايد فإن هذا ينفي وجود أي مضاربة.الحقيقة أن الحجج الثلاث ضعيفة. فقد ارتفعت أسعار النفط بما لا يعادل الهبوط الذي شهده سعر الدولار. وهذا يعني أن أسعار النفط قد ارتفعت في بلدان أخرى، الأمر الذي كان لابد أن يؤدي إلى انخفاض وليس ارتفاع الطلب. فضلاً عن ذلك فإن ارتفاع أسعار النفط كان السبب في إضعاف الدولار وليس العكس. وهذا لأن أسعار النفط المرتفعة أدت إلى ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة، الأمر الذي أدى إلى تفاقم عجز الولايات المتحدة التجاري وارتفاع احتمالات الركود في الولايات المتحدة بسبب عمل الأسعار المرتفعة وكأنها ضريبة مفروضة على الإنفاق الاستهلاكي.كما لم ترد أي تقارير عن انخفاض غير عادي في معدلات الإنتاج- وهو المحور الذي تدور حوله الحجة الثانية، بل إن ارتفاع أسعار النفط يمنح المنتجين المستقلين الحافز لرفع معدلات الإنتاج. كانت المرة الأخيرة التي شهدت بلوغ أسعار النفط الحقيقة (المعدلة طبقاً للتضخم) مستوياتها الحالية في عام 1980، وهو ما يؤكد أن تخزين النفط في الأرض قد يشكل تصرفاً تجارياً أحمق. فضلاً عن ذلك فإن منظمة الدول المصدرة للبترول (OPEC) لديها مصلحة قوية في الاستمرار في الإنتاج. فهي تريد الإبقاء على أسعار النفط أكثر انخفاضاً سعياً إلى الحفاظ على إدمان الاقتصاد العالمي للنفط ومنع البدائل التقنية الحديثة التي توفرها مصادر الطاقة البديلة من الانتشار.وأخيراً، فشلت حجة التخزين في إدراك الفارق بين الأنواع المختلفة من التخزين. وعلى هذا فربما تسببت أسعار المضاربة التي سجلت أرقاماً قياسية في دفع تجار التخزين إلى طرح مخزونهم من النفط، ولكن ربما اشترى ذلك المطروح من النفط أولئك المضاربون الذين نشطوا الآن في استئجار مرافق التخزين التجاري. وهذا يعني أن المضاربين قادرون على رفع الأسعار وزيادة المخزون لديهم رغم بقاء إجمالي المخزون التجاري بلا تغيير يذكر. فضلاً عن ذلك فربما كانت المضاربة في سوق النفط سبباً في تحريض نوع من «المضاربة المحاكية» حيث يشتري المستهلك النهائي المنتجات النفطية المكررة مقدماً رغبة في حماية نفسه من احتمالات المزيد من الارتفاع في الأسعار. ثم يأخذ المشتري ما اشتراه إلى مستودعاته الخاصة حتى يرتفع إجمالي المخزون المكرر، إلا أن مثل هذه الزيادة لا تشكل جزءاً من المخزون التجاري المعلن عنه.إن إثبات مسؤولية المضاربة عن ارتفاع الأسعار يشكل مهمة صعبة على الدوام، وذلك لأن مثل هذه الزيادات في الأسعار تميل إلى الحدوث على خلفية من العوامل الاقتصادية الأساسية القوية. ولكن هناك من الأدلة ما يشير بقوة إلى تفشي المضاربة في أسواق النفط اليوم. ومن بين العلامات الرئيسية ذلك التغيير الموثق بالمستندات والذي طرأ على أسلوب الاتجار في النفط، فالآن يتولى المضاربون (المؤسسات المالية وصناديق التحوط) 70% من الصفقات، بعد أن كانت حصتهم 37% فقط منذ سبعة أعوام.أما في ما يتصل بأساسيات السوق، فإن ظروف العرض والطلب لم يطرأ عليها أي تغيير يفسر حجم القفزة غير المتوقعة التي سجلتها أسعار النفط. بالإضافة إلى ذلك فإن السلوك الفعلي لأسعار النفط يتساوق مع المضاربة. ففي شهر يونيو قفزت أسعار النفط 11 دولاراً في يوم واحد، وفي يوليو تراجعت 15 دولاراً في ثلاثة أيام. وهذا النوع من التقلب لا يتناسب مع سوق تتحرك وفقاً لعوامل اقتصادية أساسية.على الرغم من حجم سوق النفط فإن المضاربة قادرة على تحريك الأسعار بسبب عدم مرونة العرض والطلب. إذ إن التغيير في الطلب على النفط يتم ببطء بسبب الجمود السلوكي والتقنيات الثابتة، بينما يتطلب تعديل الإنتاج الوقت. وهذه السمات تجعل أسواق النفط عُـرضة للمضاربة.إن عمليات الشراء التي تتم عن طريق المضاربة نادراً ما يتم تسجيلها ضمن المخزون الرسمي، وذلك لأن حجم عمليات الشراء يكون صغيراً عادة مقارنة بالسوق الإجمالية، فضلاً عن هوامش تكاليف تجهيزات التخزين العديدة التي يفرضها نظام التخزين العالمي. ونتيجة لهذا فقد يستمر ارتفاع الأسعار نتيجة للمضاربة لمدة طويلة قبل أن تتدخل العوامل الاقتصادية الأساسية لتخفيضها، كما حدث أخيراً على ما يبدو.مع هبوط الأسعار تميل ضرورة التدخل إلى التراجع. وهذه هي طبيعة ردة الفعل السلوكية في التعامل مع الأزمات، والسبب الذي يزيد من احتمالات استمرار الوضع الراهن، بيد أن ترك النظام بلا تغيير من شأنه أن يؤدي إلى استمرار تعرض الاقتصاد العالمي لنوبات المضاربة، وهو ما لا يستطيع العالم أن يتحمله.ولنتذكر كيف أدت النوبات الحالية إلى ارتفاع معدلات التضخم العالمية، وانحدار دخول فقراء العالم، وإضعاف الدولار، وتعميق فجوة العجز التجاري الأميركي، وتفاقم حالة عدم الاستقرار المالي في العام، وارتفاع احتمالات الركود العالمي. وإنها في الحقيقة لإدانة ساحقة تستأهل العمل السياسي العاجل.* توماس بالي ، كبير خبراء اقتصاد سابق في لجنة مراجعة العلاقات الاقتصادية والأمنية بين الولايات المتحدة والصين.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»