الغنى... رذيلة أم فضيلة؟
في الثقافة الشعبية الغنى رذيلة لأنه مرتبط في ذهن الناس بالبذخ والترف والسفاهة والملذات والفساد والفحشاء. وقد صورت الأعمال الفنية، الرواية والقصة والمسرح والسينما، حياة الأغنياء ومفاسد القصور. وهو ما لاحظه ابن خلدون أيضا في مقدمته الشهيرة بأن الغنى والترف والبذخ وحياة المدن والاستقرار وما أطلق عليه الحضر في مقابل البدو أحد أسباب انهيار الحضارات. وقد ذكر لفظ الغنى في القرآن الكريم بالمعنى الحقيقي في مقابل الفقر أربعا وعشرين مرة في أربعة معان متمايزة: 1- «الغنى» صفة من صفات الله وليس الفقر. فالله هو الغني، «قَالُوا اتَّخَذَ اللَهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ». فالله غني عن الولد والأب والأم. وهو الغني عن العالمين. لا يحتاج إلى مؤمنين أو كافرين بل هم الذين في حاجة إليه، «وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ». وليس الله في حاجة إلى جهاد المجاهدين، «وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ». بل إن الله غني عن الخلق جميعا والكافرين منهم، «إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ». والصفة الأكثر إضافة للغني هي الحميد، «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» (حوالي عشر مرات). فالمعنى يتضمن الحمد وليس الطمع في المزيد. كما أن الله هو الغني ذو الرحمة، «وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ». فالغنى لا يورث القلب القسوة والأنانية والأثرة، بل يفيض على الآخرين. كما يتضمن الغنى الكرم، «فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ»، والحلم والصبر وحسن اللين والمعاشرة. وما فائدة صدقة يتبعها أذى، «قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ». وإذا كان الله نموذجا للحياة الكاملة كما يقول الصوفية فإن الغنى هو الاستقلال الذاتي، والتحرر من العالم. وهو الحمد والشكر، والرحمة والكرم. الغنى هو الطريق إلى الأخلاق الكريمة، وإلى الفضيلة وليس إلى الرذيلة. الغنى قيمة إذا استحسن استثماره، ورذيلة إذا كان طمعا وانكبابا على الدنيا وقسوة على الفقراء وبخلا على المحتاجين.
2- والغنى غنى النفس، والفقير فقير بما له، غني بعزته وكرامته لا يسأل الناس إلحافا، يحسبه الناس غنيا لعفته، «يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ». أما الغني فإنه أيضا يستعفف من زيادة الغنى وطلب المزيد من المال، «وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ». الغنى غنى الروح والاستغناء عن العالم. المال وسيلة وليس غاية. ومن لديه الكفاية فإن مزيدا من الغنى هو الطمع والجشع والاكتناز وتحويل الوسيلة إلى غاية. 3- ولا يتركز الغنى في أيدي حفنة من الأغنياء، «كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ» لمنع احتكار الثروة وتحكم رأس المال، واستغلال الأغنياء للفقراء. بل يتم تداول رأس المال لدى أوسع شريحة اجتماعية. فالمال للاستخدام وليس للاكتناز. وتوزيع الثروة على أكبر قدر ممكن من الناس خير من تركيزها في أيدي قلة. الغنى رأسمال للتنمية الاجتماعية وللتصنيع ولإيجاد فرص للعمالة. يتحول إلى أصول منتجة وليس مجرد وسائل للإنفاق وأدوات للاستهلاك.4- ويتطلب الغنى الصرف على الدفاع عن البلاد وتجهيز المقاتلين، فلا يستأذن الغني في التخلف عن القتال حرصا على ماله وثروته، «إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ». صحيح أن الدولة الحديثة الآن تقوم بالدفاع عن البلاد، وأن تجهيز الجيوش يتطلب أموالا طائلة، ومع ذلك يستطيع الأغنياء إعداد الدفاع المدني، وإقامة المخابئ، وشراء عربات الإسعاف، وتجهيز المستشفيات. ويستطيعون إعداد المقاومة الشعبية إذا لزم الأمر بشراء الأسلحة الخفيفة وإقامة المتاريس، والستائر الرملية، والحوائط العازلة، وتنظيم المرور، وليس الاستفادة من العدو بالتجارة معه في الحديد والأسمنت والموز والمواد الاستهلاكية لمزيد من الإثراء كما كانت تفعل طبقة الأغنياء في كل عصر بالتعامل مع قوات الاحتلال. مبادئ بسيطة يمكن استنباطها من تحليل لفظ «الغنى» في القرآن الكريم ولكنها موجهة الى شؤون البلاد الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وفي مقدمتها بناء الوعي الذاتي، دعامة كل شيء. * كاتب ومفكر مصري