في كيانية حركة المواطنة ودلالاتها!
يُعد موضوع المواطنة موضوعاً جديداً في الفكر العربي المعاصر، وبهذا المعنى فإن ما يمكن أن نطلق عليه حركة مواطنة في العالم العربي يكاد يكون جنينيا، أو هو أقرب إلى الإرهاص منه إلى تأسيس «كيانية حقوقية» ذات أهداف محددة وواضحة في إطار آليات معلومة، بحيث تتحول المفاهيم إلى حقوق، وهذه الأخيرة إلى تشريعات وقوانين في إطار مؤسسات وبرلمانات، مثلما يتطلب الأمر وجود قضاء عادل ومستقل يحميها من التجاوز والانتهاك، في ظل تطبيقات وممارسات بحاجة إلى نقد وتطوير مستمرين، لاسيما في إطار دور متميز للمجتمع المدني!!ولعل في فكرة انبثاق أو تأسيس حركة للمواطنة في العالم العربي دلالات كثيرة، فالدلالة الأولى، أن عالمنا العربي مازال في أول السلم على الصعيد العالمي إزاء المفهوم السليم للمواطنة وحقوقها، حيث تزداد الحاجة إلى إثارة حوار وجدل حول الفكرة وأبعادها وغاياتها وسياقاتها قياساً، وحشد قوى وطاقات حكومية وغير حكومية، سياسية وفكرية وثقافية ودينية واجتماعية، إضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني لمقاربة المفهوم الذي ارتبط بفكرة الدول العصرية الحديثة، وبالتقدم الذي حصل في هذا الميدان، لاسيما في الدول الغربية المتقدمة، حيث هناك تصالح بين الدولة والمواطن سواء في نظرة الدولة الى المواطن أم في نظرة الأخير إلى الدولة. ومسؤولية الدولة لم تعد الحماية فحسب، بل أصبحت الدولة «دولة رعاية» واجبها ووظيفتها الأساسية خدمة المواطن وتحسين ظروف عيشه وتوفير مستلزمات حريته ورفاهه، وفي المقابل فإن نظرة المواطن للدولة أصبحت إيجابية هي الأخرى، من حيث احترامه للقوانين والأنظمة وعلاقته بالمرافق العامة وحفاظه على البيئة وواجبه في دفع الضرائب وغير ذلك.
أما في البلاد العربية، فإن نظرتها إلى المواطن ظلّت نظرة تشكيكية ارتيابية في الغالب، إن لم تكن عدائية، وفي المقابل فإن نظرة الفرد للدولة استمرت نظرة سلبية، متربصة، تعارضية، بما فيها إزاء الخدمات والمرافق العامة، خصوصاً في ظل ضعف الحرية والتمييز وعدم المساواة وعدم تكافؤ الفرص والحق في المشاركة.أما الدلالة الثانية، فتكمن في انشغال بعض المهتمين على صعيد الفكر، وحقوقيين وناشطين بفكرة حركة للمواطنة، باعتبارها فكرة راهنية ومطروحة على صعيد البحث من جهة، وعلى صعيد الواقع العملي من جهة أخرى، خصوصاً الأسئلة الشائكة التي تواجهها، والتطبيقات المختلفة التي تقف أمامها في مفترق طرق عديدة وخيارات بين مرحلتين: الأولى، تكاد تكون انتهت أو تلاشت على الصعيد العالمي، لاسيما الأنظمة الشمولية التي تحتكر الحقيقة والدين والسلطة والمال والإعلام، لكنها ماتزال قوية ومؤثرة في مجتمعاتنا بأنظمته المختلفة، ومثلما أوردت تقارير التنمية البشرية، فالمنطقة العربية تعاني نقصا فادحاً في الحريات، وشحّاً في المعرفة، ونظرة قاصرة في الموقف من حقوق الاقليات وحقوق المرأة وغيرها. أما المرحلة الثانية، فنحن مازلنا على أعتابها، خصوصاً أن حركة الإصلاح والدمقرطة في العالم العربي ماتزال في بداياتها، لاسيما أن هناك كثيراً من الكوابح تعترض طريقها، سواء كانت سياسية أو دينية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية.وما تزال فكرة المواطنة في عالمنا العربي تتعرض إلى تجاذبات داخلية وخارجية، خصوصاً ارتباطها على نحو وثيق بمسألة الهوية ومستقبلها، لذلك فإن الحوار والجدل بقدر إجلائهما بعض التشوش والغموض إزاء مستقبل بلداننا، فهما يساعدان في الوقت نفسه في نشر ثقافة المواطنة ويعمقان الوعي الحقوقي بأهميتها وضرورتها وفداحة نكرانها أو الانتقاص منها أو تعطيلها أو تعليقها تحت أي حجة أو ذريعة.الدلالة الثالثة، تتعلق بالالتباس النظري والعملي بشأن فكرة المواطنة، ولاسيما في مواقف الجماعات والتيارات الفكرية والسياسية والقومية المختلفة، الأمر الذي يضع تكوين تصور مشترك حولها، خصوصاً في إطار المبادئ الدستورية للدولة العصرية التي تستند إلى سيادة القانون ومبدأ المساواة، بوصفه مسألة ملّحة وضرورة حيوية، لا يمكن اليوم إحراز التقدم والتنمية المنشودين من دونه، وهو الأمر الذي يزخر بمساحة الحرية والمشاركة والعدالة، باعتبارها متلازمة ضرورية للمواطنة.أما الدلالة الرابعة، فترتبط بإشكالات المواطنة، لاسيما التحديات التي تواجهها، فقد بدأت تحفر في أساسات الدولة والهوية، بحيث يجعل من الواجب إدارة حوار فكري ومعرفي حولها، مادامت تدخل في صلب المشكلات التي تواجه المصير العربي، ومعها يصبح جدل الهويات أساساً للتعايش والتكامل والتطور السلمي للمكوّنات المختلفة، بدلاً من أن يكون مادة للتناحر والانغلاق والتعصب، وهذه المسألة تتطلب الإقرار بالتنوع والتعددية والمشترك الإنساني كشرط لا غنى عنه للهوية الجامعة، مع تأكيد الحق في الاحتفاظ بالهويات المصغرة الجزئية، الدينية أو القومية أو الثقافية وغيرها! الدلالة الخامسة، تتعلق بالعلاقة الجدلية بين فكرة المواطنة وحقوق الإنسان، خصوصاً بمبدأ المساواة في الحقوق، وبالأخص حق المشاركة في إدارة الشؤون العامة، وحق تقلّد الوظائف العليا من دون تمييز لأي سبب كان، سواء التمييز الديني أو القومي أو المذهبي أو الاجتماعي أو اللغوي أو الجنسي أو بسبب اللون، أو غير ذلك. ويأتي حق المشاركة، في إطار الحقوق الأساسية ونعني بها حق التعبير وحق الاعتقاد وحق التنظيم. ولعل هذه الإشكالية هي التي تشكل جوهر فكرة المواطنة، خصوصاً إذا ما اقترنت بالعدل، إذ إن غيابه سيؤول إلى الانتقاص من حقوق المواطنة، ولا تستقيم مواطنة كاملة مع الفقر، ومع الأمية والتخلف وعدم التمتع بمنجزات الثقافة والعلم والتكنولوجيا وغيرها.ليس تجنّياً إذا قلنا إن الفكر العربي ما يزال يعاني نقصاً كبيراً في ما يتعلق بثقافة المواطنة، وتستمر النظرة الخاطئة أو القاصرة إلى مبدأ المساواة قائمة، إضافة إلى الموقف السلبي من حقوق الأقليات وحقوق المرأة، وما يزال الكثير من التيارات والاتجاهات السائدة في السلطة والمجتمع يتمسك بالنظرة التسلطية لعلاقة الدولة بالمواطن، الفرد، الإنسان، الذي هو شخص وكيان له أهلية قانونية، ففي كثير من الأحيان يُنظر الى حقوق المواطنة، إما باعتبارها هبة وإما منّة وإما مكرمة من الحاكم، يكون الأفراد عنده «رعايا لا مواطنين» متساوين في الحقوق والواجبات.ومثل هذه المسألة ترتبط بأفكار ماضوية لعلاقة الحاكم بالمحكوم، تلك التي تم تبريرها تارة على أساس «نظرية التفويض الإلهي» وأخرى على «أساس وراثي» كما هي الأنظمة الملكية، لاسيما المطلقة، وثالثة باسم «الشرعية الثورية» المستندة الى الدين أو الطبقة أو القومية والدفاع عن مصالح الثورة والأمة في وجه أعدائهما، على حساب الشرعية الدستورية وسيادة القانون ومبدأ المساواة.إن نقل الحوار والجدل حول فكرة المواطنة إلى منابر متنوعة، لاسيما الجامعات ومراكز الأبحاث وإقامة منتديات فكرية وثقافية وإشراك أوساط من النخب والمختصين، إضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني والبرلمانات والحكومات في الآن ذاته، ناهيكم عن قطاعات شعبية، وخصوصاً من النساء ومن الأقليات، وبمساهمة حيوية من جانب الإعلام، لاسيما الفضائيات في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات وبفضل الإنترنت والكمبيوتر، يمكن أن يلعب دوراً كبيراً في زيادة الاهتمام بفكرة المواطنة وتعزيز أركانها وصولاً الى ما نطلق عليه مفهوم «المواطنة العضوية» الذي يقوم على خمسة أركان أساسية هي: المساواة، والحرية، والمشاركة، والعدالة والهوية، في إطار تفاعل ديناميكي لا انفكاك بين عناصره ومكوناته ولا انتقاص من أحدها.ولعل مناسبة هذا الحديث هي ندوة مهمة انعقدت في تونس (الحمامات) 25-27 يوليو 2008 بمبادرة من «مركز الكواكبي للتحولات الديمقراطية» و«المعهد العربي لحقوق الإنسان»، إذ تمت بلورة نداء، يعلن مبادئ عامة لحركة مواطنة تدعو الحكومات والقوى والأحزاب السياسية والمرجعيات الدينية والثقافية والاتحادات والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني إلى الالتزام بالمعايير الدولية للمواطنة في الدولة العصرية، التي تقوم على أساس علاقة تعاقدية بين الفرد والدولة، لاسيما في ظل نظام ديمقراطي، باعتبار المواطنة حقاً لا يمكن المساس به أو المساومة عليه أو الانتقاص منه، الأمر الذي هو بحاجة إلى تفعيل وتأطير وتطوير. وكان منتدى الفكر العربي الذي يرأسه الأمير الحسن بن طلال قد أطلق وثيقة عربية بعنوان «الإعلان العربي للمواطنة» خلال اجتماعه بالرباط في أبريل 2008، الأمر الذي يجعل حملة المواطنة التي انطلقت من تونس، تمثل بلورة عملية لقيام حركة فاعلة للدفاع عن الفرد وحقوقه وعن المبادئ والقيم الإنسانية.* باحث ومفكر عربي