لا شك في أن ظروف العراق الحالية، تُحتّم عليه عقد مثل هذه الاتفاقية مع أميركا، لاسيما أن العراق يقع في منطقة ملتهبة بالمشاكل والحروب الأهلية والإقليمية، ويغرق في بحر الفوضى السياسية العربية.لماذا كل هذا الفزع الآن من مسودة الاتفاقية العراقية-الأميركية التي من المفروض أن يتم توقيعها من الطرفين في نهاية يوليو القادم، بعد أن تتم مناقشتها من قبل كل ممثلي مكونات الشعب العراقي وأحزابها وتنظيماتها السياسية، وبعد أن يوافق على بنودها مجلس الأمة العراقي؟
العراق ليس وحده
فهل العراق هو أول دولة عربية في التاريخ العربي المعاصر، توقّع اتفاقية تعاون مع دولة غربية كأميركا؟
فالإمارات العربية المتحدة وقعت اتفاقية دفاع مشترك بينها وبين فرنسا في عام 1995، ثم اتفاقية عسكرية لإقامة قاعدة عسكرية في الخليج العربي عام 2008.
ووقعت قطر على اتفاقية عسكرية بينها وبين بيلا روسيا في هذا العام 2008. كما سبق لقطر أن وقعت اتفاقية لإقامة أكبر قاعدة عسكرية أميركية خارج أميركا في قطر في منطقتي «السيلية والعديد».
ووقع العراق اتفاقية استراتيجية بينه وبين الاتحاد السوفييتي عام 1972 لمدة 15 عاماً بعد تأميمه للنفط العراقي.
وهناك عدة اتفاقيات تمَّ توقيعها بين مصر والاتحاد السوفييتي السابق وبين سورية والجزائر والاتحاد السوفييتي، فلم يعترض عليها أحد، ولم تُقدح الحناجر لمهاجمتها.
العراق لن يكون أول دولة عربية تسمح بإقامة قواعد عسكرية أميركية والخليج العربي مليء بالقواعد العسكرية الأميركية. ومياه الخليج تعجُّ بحاملات الطائرات الأميركية.
فلماذا إذن، تهاجم بعض أجهزة الإعلام العربي والإيراني خاصة، وبعض الكتّاب العرب الموالين للحلف الرباعي (سورية- إيران- حزب الله- حماس) هذه الاتفاقية العراقية–الأميركية وهم لم يقرؤوها بعد، ولم يعرفوا ما هو محتواها، لأنها لاتزال حتى هذه اللحظة مجرد مبادئ عامة. ولكن رغم هذا، بدأ إطلاق النار عليها؟ فقال ياسر الزعاترة الصحافي الإسلامي الأردني الموالي للحلف الرباعي والمدافع الجسور عن عمليات الإرهاب في العراق وفلسطين وأفغانستان في جريدة «الدستور» الأردنية، وهي جريدة يمينية أسسها الإخوان المسلمون (محمود وكامل الشريف وهما فلسطينيان من العريش):
«ليس ثمة معلومات واضحة حول ماهية الاتفاقية، ربما لأنها لم تنجر بعد، لكننا لن نحتاج الكثير من الذكاء كي ندرك أهم تلك البنود ممثلة في تشريع بقاء المحتلين في العراق من خلال قواعد عسكرية دائمة أو مؤقتة، الأمر الذي سيبرر من خلال الحديث عن تجارب معروفة مثل ألمانيا واليابان، فضلاً عن التبجح بالقول إن تلك القواعد موجودة في عدد من الدول العربية من دون أن يقول أحد إنها دول محتلة.» («الدستور»، 31/5/2008).
وقس على ذلك مقالات مختلفة من هذا القبيل. وهي كلها تعترف بأنها تنتقد اتفاقية لم تُقرأ ولم تُعرف بعد. وهي تعترف كذلك، بأن العراق ليس الأول والأخير الذي يوقع مثل هذه الاتفاقيات الاستراتيجية مع دول غربية.
إذن، «علامَ الضجة الكبرى علامَ»، على رأي الشاعر أحمد شوقي؟
لا حاجة لذكاء شديد
إن الأمر لا يحتاج إلى ذكاء شديد، عندما نرى أن كل الذين وقفوا في وجه حرية وديمقراطية العراق وعهده الجديد، وأيدوا ودعموا العمليات الإرهابية على مدار السنوات الخمس الماضية، هم الذين يقفون اليوم ضد الاتفاقية القادمة بين العراق وأميركا. وهم بهذا لا يريدون للعراق استقراراً، ولا للحرية مرتكزاً، ولا للديمقراطية مكاناً في العراق. وإيران المعترضة الأولى على هذه الاتفاقية تريد العراق خاليا من أي قوة رادعة، لكي يصبح العراق «سداح مداح» لها، تعبث به كما تشاء، وتنشر فيه الفوضى والإرهاب كما تشاء، وكما اعتادت في السنوات الأخيرة.
فهل لو كان العراق ينوي عقد مثل الاتفاقية بالبنود نفسها مع إيران أو مع سورية، هل كانت الدنيا تقوم ولا تقعد، كما هي الآن؟
سؤال بسيط، ولكنه يلخّص سبب هذه الضجة، حول اتفاقية العراق وأميركا؟
ملامح الاتفاقية
جاء في بنود الاتفاقية الاستراتيجية المزمع توقيعها في نهاية يوليو القادم التي وزعتها السفارة الأميركية في بغداد في أكتوبر 2007 «دعم واشنطن لجمهورية العراق في الدفاع عن نظامها الداخلي ضد التهديدات الداخلية والخارجية، واحترام ودعم الدستور باعتباره التعبير عن إرادة الشعب العراقي، والوقوف في وجه أي محاولة، لعرقلته، أو تعطيله، أو انتهاكه» .
وتطرقت بنود الاتفاق إلى «تشجيع التبادل الثقافي، والتعليمي، والعلمي بين البلدين» في المجال الاقتصادي. وتضمَّن الاتفاق دعم نمو العراق في مختلف الحقول الاقتصادية، بما فيها طاقته الإنتاجية، والمساعدة على تحوليه إلى اقتصاد السوق، وتشجيع جميع الأطراف على التقيد بالتزاماتهم، كما نصَّ عليه العقد الدولي مع العراق، ودعم بناء مؤسسات العراق الاقتصادية وبنيته التحتية بتوفير مساعدة مالية وتقنية لتدريب وتطوير كفاءات وقدرات المؤسسات العراقية الحيوية، ودعم المزيد من اندماج العراق في المنظمات المالية والاقتصادية الإقليمية والدولية، وتسهيل وتشجيع تدفق الاستثمارات الأجنبية على العراق، خصوصاً الاستثمارات الأميركية، للمساهمة في إعادة تعمير وبناء العراق».
أما في المجال الأمني فإن الاتفاق ينصُّ على « توفير ضمانات والتزامات أمنية لجمهورية العراق لمنع أي اعتداء خارجي على العراق ينتهك سيادته وسلامة أراضيه، أو مياهه، أو مجاله الجوي، ودعم جمهورية العراق في جهودها لمكافحة جميع الجماعات الإرهابية، وفي مقدمتها «القاعدة»، والصداميون، وجميع الجماعات الخارجة على القانون بصرف النظر عن انتمائها، وتدمير شبكاتها اللوجستية ومصادر تموينها، ودحرها واجتثاثها من العراق».
ما حاجة العراق لهذه الاتفاقية؟
لا شك في أن ظروف العراق الحالية، تُحتّم عليه عقد مثل هذه الاتفاقية مع أميركا -وهي اتفاقية لا توقعها أميركا إلا مع بلد صديق له معه مصالح مشتركة، وتحرصُ على أمنه وسلامته- لاسيما أن العراق يقع في منطقة ملتهبة بالمشاكل والحروب الأهلية والإقليمية، ويغرق في بحر الفوضى السياسية العربية، وليس جاراً لدول اسكندنافية. فالعراق يقع في الشرق الأوسط بين دول الحرائق.
فمن يحمي العراق من الحريق في هذا الوسط، غير أميركا، رغم أخطائها القاتلة في العراق؟
ومن الذي أزاح الدكتاتورية العراقية غير أميركا، رغم الثمن الفادح الذي دفعته أميركا والعراق معاً؟
وهل تحرّك شخص واحد... واحد فقط، أو زعيم عربي واحد... واحد فقط، لينقذ الشعب العراقي من الدكتاتورية المفترسة السابقة؟
هل يفيد البكاء العراق؟
اليوم، وبمناسبة نية العراق التوقيع النهائي في نهاية شهر يوليو 2008 على اتفاقية تعاون بين أميركا والعراق، يتباكي بعض المعلقين السياسيين العرب على العراق بكاء التماسيح. ويصرخون ويناشدون العراق بعدم توقيع هذه الاتفاقية.
لماذا؟
لئلا يتم نهب العراق، وسرقة بتروله، والانتقاص من سيادته.
ولكن من الذي نهب العراق في السنين الخمس الماضية؟ ومن الذي قتل آلاف العراقيين الأبرياء في السنوات الماضية؟ ومن الذي انتقص من سيادة العراق في تلك الفترة؟ أليست دول الجوار التي راحت من الشرق والغرب والشمال والجنوب تبعث للعراق بهداياها من السيارات المفخخة، والأحزمة الناسفة، للمباركة بالعهد العراقي الجديد!
* كاتب أردني