حرق مراحل الديمقراطية

نشر في 17-03-2009
آخر تحديث 17-03-2009 | 00:00
 د. عمار علي حسن اعتراف بعض المفكرين الغربيين بأن «الديمقراطية» المطبقة حاليا، ليست نظاما كاملا أو ليست نهاية لتاريخ الممارسة والتجريب السياسي، يفتح الباب أمام الآخرين ليتحدثوا عن إبداع سياسي خاص، شريطة ألا يتم استغلال هذا الحق أو تلك الرخصة في ارتكاب جريمة الاستبداد.

يثير التضاغط الخارجي، الذي يتماس في نقاط عدة مع مطالب شعبية داخلية، في سبيل إصلاح النظم السياسية العربية، تساؤلا حول كيفية انتقال هذه النظم من حالات تتراوح، في أغلبها، بين الطغمائية والشمولية إلى أشكال تتعدى مجرد الانفتاح السياسي والتعددية المقيدة إلى الديمقراطية بفضائها الأوسع، الذي ينطوي على قيم عظيمة، تتصدرها الحرية والتسامح، وإجراءات في الواقع، تحول الأقوال إلى أفعال ملموسة.

لكن ما يحدث، حتى الآن، يشير إلى أن هناك التفافاً على الإصلاح السياسي الديمقراطي، بما قد يفضي في خاتمة المطاف إلى تجميل القبح، أو تلميع القشرة الخارجية للنظم التسلطية، بما يوحي بأن هناك تغيرا ما يحدث. ويتم هذا الالتفاف تحت لافتة عريضة مفادها أن الديمقراطية ليست شكلا واحدا، بل تتخذ أنماطها حسب ظروف كل مجتمع، وأن من حق كل جماعة أن تبدع الديمقراطية الخاصة بها، كما أن الديمقراطية الغربية نفسها لا تخلو من مشاكل أو نقائص.

وبداية فإن تحليل الأسس الاقتصادية للديمقراطية قد ينال من هيبتها كأسلوب للحكم لا غنى عنه، لكنه لا يقلل أبدا من أنها الطريقة الأكثر رقيا- حتى الآن- في إدارة المجتمع، والتي توصل إليها البشر بعد تجارب عميقة وكفاح طويل في سبيل تأكيد حريتهم وكرامتهم، أي أنها «العقد الاجتماعي» بين الحاكم والمحكومين في أحدث صوره.

وهذه العقد قابل للتطوير، بما يجعله أكثر نزاهة وعدلا، وأكثر انتصارا للمجتمع في مواجهة السلطة، أو بالأحرى يضمن للجماعة آليات وإجراءات أعظم قدرة على تقويم أداء الحكومة ومحاسبتها وتغييرها. ومن هنا فإن هناك في الغرب من يطالب بتطوير الديمقراطية بما يحقق هذه الغايات. وهذه المطالبة تنصب أساسا على إيجاد فرص متكافئة حقيقية تمنع اختطاف الديمقراطية بما يجعلها مجرد حكم النخبة أو الفئة القابضة، أو ما يجعل المشاركة السياسية عملا هامشيا، خصوصا في ظل إحصاءات تشير إلى أن الذين يذهبون إلى صناديق الاقتراع ليسوا كل من لهم حق التصويت، وأن من يتقدمون بترشيح أنفسهم لإدارة شؤون البلاد ليسوا الأفضل والأجدر في كل الأحوال، وأن تنفيذ السياسة لا يكون بالضرورة مطابقا للبرامج الانتخابية، وأنه ليس كل ما يوعد به المرشحون يتم إنجازه، ولا تتصرف الحكومة بعد انتخابها على أنها مجرد خادم مطيع للشعب الذي أتى بها.

وفي هذا السياق ظهرت العديد من الدراسات التي تنتقد أداء الديمقراطية الغربية في صورتها الأكبر، المتمثلة في الديمقراطية الأميركية. ولم تكتف هذه الدراسات بتقييم الأسس والمنطلقات النظرية للديمقراطية، بل استخدمت المناهج والأدوات في تحليلاتها، وتابعت الدور التاريخي الذي تلعبه المصالح المادية الضيقة في إيجاد المبادرة السياسية وإدارة عمليات السياسة، والدور الذي يلعبه المال في الحملات الانتخابية، والتأثيرات السلبية التي يتركها، وكيفية تلافيها، أو التقليل من مثالبها.

هذا الأمر بقدر ما يوفر حجة لإعادة النظر في المقولة التي روج لها الباحث الأميركي فرانسيس فوكاياما واعتبر فيها أن الليبرالية الغربية هي «نهاية التاريخ وخاتم البشر»، فإنه يؤكد أن التفاوت بين بعض مجتمعات العالم الثالث والمجتمعات الغربية في «الأداء السياسي» قد يزداد هوة. ففي الوقت الذي تحاول فيه الأولى أن تخلق نمطا من الديمقراطية المظهرية بما ينأى بها عن تغير سياسي حقيقي يفكك العديد من الروابط التسلطية والقمعية نجد أن الثانية تناقش إمكانية الانتقال إلى طور أكثر ارتقاء من الديمقراطية، أي أن يتم تجديد الأفكار والممارسة السياسية بما يمكن من التغلب على بعض النواقص التي تشوب الحكم الديمقراطي في صورته الراهنة.

وبالطبع فإنه في مثل هذه الحال لا تطالب النخب الفكرية في الكثير من دول العالم الثالث بديمقراطية من الطور الذي سترتقيه الديمقراطية الغربية، بل تسعى إلى الحد المناسب من الديمقراطية، أي انتخابات نزيهة وحرية تعبير وقدرة على مساءلة السلطة. أما الحديث عن تكافؤ الفرص الاقتصادية بما ترتبه من توزيع عادل للموارد السياسية، كشرط أساسي للديمقراطية، فيبدو أمرا «طوباويا» في ظل نظام حكم تسلطي أو شمولي، ويصبح إجراء قريب المنال بالنسبة لنظم ديمقراطية عريقة.

ويقوم هذا المنطق على أن الديمقراطية تطبق بتدرجية، ليس لأنها تشكل خطرا يهدد أحدا، لكن لأن القائمين على الأمر السياسي في الدول غير الديمقراطية لن يفرطوا بسهولة في تمتعهم بمناصب مطلقة، لا تعرف رقيبا ولا حسيبا وإن عرفت هذا شكلا فهي تنكره موضوعا وإن أخطأت لا تخشى حسابا لأن أحدا لن يجرؤ على ذلك. ومن ثم فإن استدراج هؤلاء ليطبقوا خطوات متلاحقة حيال الانفتاح السياسي يبدو هو الحل المتاح في ظل غياب الحلول المفترضة، التي تقوم على التغيير من أسفل وليس التغيير من أعلى. في المقابل هناك من ينادي بـ«حرق المراحل»، أي سد الفجوة في الأداء السياسي بين الدول المتقدمة سياسيا والدول المتخلفة في المضمار ذاته فورا ودون تردد.

واعتراف بعض المفكرين الغربيين بأن «الديمقراطية» المطبقة حاليا، ليست نظاما كاملا أو ليست نهاية لتاريخ الممارسة والتجريب السياسي، يفتح الباب أمام الآخرين ليتحدثوا عن إبداع سياسي خاص، شريطة ألا يتم استغلال هذا الحق أو تلك الرخصة في ارتكاب جريمة الاستبداد بدعوى أن شعوبا لا تصلح إلا أن تحكم بهذه الطريقة، أو أنها لم تنضج بعد كي يطبق فيها النظام الديمقراطي، أو أن الأخير قد يؤثر سلبا على مصالح أمنية حيوية. أو أن هناك ضرورات اجتماعية مزعومة تفرض الالتفات أولا إلى التنمية الاقتصادية وتأجيل ملف التعددية السياسية. فالإبداع السياسي يجب أن يكون صعودا لأعلى في اتجاه إيجاد النظام الأكثر قدرة على الحفاظ على كرامة الإنسان وصون حقوقه ومصالحه وضمان مستقبله، وليس انحدارا لأسفل في اتجاه تكريس التسلط والبخس من مكانة الإنسان وهضم حقوقه لحساب سلطة مستبدة.

* كاتب وباحث مصري.

back to top