تيـار الإحيـاء
أدرك المنتمون إلى مختلف التيارات السياسية والفكرية العربية، بعد طول تجريب وممارسة، أن هناك قواسم مشتركة، سواء على مستوى الأفكار المجردة، أو القضايا المطروحة والمخاطر المحدقة، ثم فتح الحوار بين الإسلاميين والقوميين، ونبت في أحشاء الحركة الإسلامية فريق يمتلك قدرة على التعاطي مع ما يطرحه الليبراليون، وآخر يقارب بين الإسلام والاشتراكية.
في امتداد للنزاع المفتعل بين العروبة والإسلام، يرسم كثيرون خطا بيانيا لحركة الإحياء يختزلها في أتباع التيار الإسلامي، فيبدؤون بمحمد عبده، ليصلوا إلى الإخوان المسلمين، ويضعوا في منتصف الرحلة محمد رشيد رضا، مع أن الأخير غير الأول، والإخوان ليسوا أبدا استكمالا لمشروع الفقيه المجدد محمد عبده، بل في واقع الأمر هم ارتداد عليه، وإن كان يحسب لهم نقل الإحياء الإسلامي من الأفكار والرؤى المدفونة في بطون الكتب إلى حركة يموج بها الواقع المعيش، وهم إن كانوا قد جاؤوا في الترتيب التاريخي بعد مؤسسات إسلامية كبرى أخرى مثل «الجمعية الشرعية للعاملين بالكتاب والسنة» أو«أنصار السنة المحمدية» فإنهم بطرحهم الإسلام «دين ودولة» و«مصحف وسيف» على حد تعبير بيانهم المؤسس وشعارهم المستمر، قدموا نفسهم للشرق والغرب بديلا سياسيا واجتماعيا، وليس مجرد جماعة دعوية، تقتصر حدودها على التربية الخلقية، وتعميق التجارب الإيمانية والعقيدية.خطورة ما ينطوى عليه هذا التصور أنه يستبعد كل الجهود التي بذلتها القوى السياسية العربية الأخرى، بمختلف مشاربها وتوجهاتها، في سبيل إصلاح الحالة المتردية، وكان الدافع الأهم لبذلها هو إحياء الحضارة الإسلامية-العربية. وهذه الجهود بذلت وبتفان شديد من قبل كثيرين، سواء خلال الحقبة الاستعمارية أو سنوات ما بعد الاستقلال. وكان أكثر الذين تركوا علامات على هذا الدرب أبعد ممن يحيل كثيرون إليهم حركة الإحياء دون غيرهم، اللهم إلا إذا كان هؤلاء يقصدون بالإحيائيين الأكثر إثارة للجدل أو الأكثر حدة وحضورا جماهيريا، وهو ما يروجه أتباع التيار الإسلامي حين يؤكدون في خطابهم أن المدرسة الإصلاحية والإحيائية العربية تجاوزت الليبرالية والماركسية لتأتي الصحوة الإسلامية في السبعينيات من القرن المنصرم لتمثل ذروة التعبير عن ذلك التجاوز، الذي يعني في نظرهم فشل أتباع التيارات السياسية والفكرية الأخرى في تقديم حلول ناجعة للمشكلات المطروحة في الواقع المعيش، وهو حق، لكن لا يستثنى منه الإسلاميون أنفسهم.ومن دون شك فإن أصحاب هذا الرأي يدركون جيدا أن المفكرين والحركيين العرب، على اختلاف مدارسهم ومذاهبهم، لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام التحديات التي يفرضها الواقع، بل قلبوها على وجوهها، ما أمكنهم، في رحلة شاقة للبحث عن منفذ للخروج من ضيق الحالي إلى براح الآتي، مستخدمين كل ما ألفوه من مناهج وأدوات معرفية، ظنوا أنها قادرة على تحقيق هذا الحلم الصعب. وهذا التقليب أو التمحيص امتد من النصوص الثابتة إلى السلوك في حركته وجدله مع الحياة، ومن الموروث الخاص الذي أتاحته الحضارة الإسلامية-العربية إلى المشترك العام الذي تقدمه الحضارة الغربية، سواء إذا كانت بالنسبة للبعض في وضع التحدي الرئيسي أو بالنسبة لآخرين في وضع المكنز، الذي يمكن الاستفادة من عطائه المتجدد والمتدفق. وساهم في هذه الرحلة فلاسفة ومفكرون وباحثون ينتمون إلى خلفيات علمية وأيديولوجية متعددة، فأنتجوا معرفة معمقة حول الحال والمستقبل العربي، أخذ بعضها شكل المشروع الفكري، الواسع النطاق، المفتوح على روافد متنوعة من العلوم، وأخذ الآخر صيغة الرؤية، سواء كانت فلسفية أو سياسية، وأخذ الثالث طريق البحث الممنهج، المحدد الافتراضات، المقنن الأدوات. وامتزجت أحيانا الرؤية بالبحث، ولم يخل المشروع، فضلا عن كونه بحثا علميا موثقا، من رؤية.في هذا المضمار تطل أعمال عابد الجابري والطيب تيزيني وقسطنطين زريق وحسن حنفي وزكي نجيب محمود ومحمد جابر الأنصاري وأنور عبد الملك وعلي حرب وجلال العظمة ونصر حامد أبو زيد ومحمد الغزالي وعبد الله العروي وهشام جعيط والحبيب الجناحي وعلي الوردي وعبد الله الجذامي ومحمد أركون والصادق النيهوم ومالك بن نبي وفؤاد زكريا... إلخ، وتجاورها مئات الأعمال الإبداعية، في مختلف الفنون، وعشرات من الحركات الاجتماعية، سواء كانت مؤسسات مجتمع مدني أو غيرها، ماج بها العالم العربي منذ رفاعة الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي وحتى اللحظة الراهنة.محاولات هؤلاء الثرية تلاقت في مفاهيم وتصورات، وتعارضت في أخرى، ووازى بعضها بعضا في الزمان، ونهل بعضها من معين واحد، وتركت الباب مفتوحا على مصراعيه أمام أي محاولات تأتي في المستقبل، لأنها لم تدع احتكار الصواب، ولم تزعم الاكتمال، بل أكد أصحابها، على اختلاف مدارسهم، أنها مجرد خطوات إلى الأمام على درب قد ينتهي بالعرب إلى النهضة، من خلال الوعي بالذات وقدراتها، وفهم الآخر ونواياه، والتفاعل مع الواقع المعيش في صيرورته، التي لا تتمهل أبدا، لأن عربة التاريخ تتحرك دائما في الزمان والمكان، في المعرفة والمجتمع، من دون توقف، ولا يقتصر تحركها على تيار واحد، أو مدرسة فكرية واحدة، بل تتفاعل الأفكار وتمتزج التجارب، لتشكل في نهاية المطاف محاولات لحل المعضلات الحياتية المتكررة، والمتفاوتة في درجة تعقيدها، وحيويتها.وما شهدته السنوات الأخيرة من تطورات برهنت على صدق المقولات السابق ذكرها، إذ أدرك المنتمون إلى مختلف التيارات السياسية والفكرية العربية، بعد طول تجريب وممارسة، أن هناك قواسم مشتركة، سواء على مستوى الأفكار المجردة، أو القضايا المطروحة والمخاطر المحدقة. ومن ثم فتح باب الحوار بين الإسلاميين والقوميين، ونبت في أحشاء الحركة الإسلامية فريق يمتلك قدرة على التعاطي مع ما يطرحه الليبراليون، وآخر يقارب بين الإسلام والاشتراكية، من خلال إعلاء قيمة العدل الاجتماعي في التصور الإسلامي. وهذا التلاقي يفرض ضرورة إعادة بناء التصور العام حول حركة الإحياء والإصلاح، بحيث تصبح نقطة لالتقاء الجميع، ومشروعا يلتف حوله الكل، بعد أن ضاع زمن طويل في الصراعات الإيديولوجية الجانبية والداخلية والفرعية، على حساب القضايا الكبرى التي تهم الوطن.* كاتب وباحث مصري.