إن إسرائيل وفي موازاة إذاقتها لنا كل هذه المجازر واحتلالها تلك الرقعة من الأرض، قد انتصرت في معركة أخرى أهم وأخطر... لقد انتصرت حين تمكنت من جعلنا نختزل قضية فلسطين من كونها شأناً وفريضة دينية لكل المسلمين وهماً قومياً لكل العرب، إلى جعلها شأنا فلسطينيا خاصا.

Ad

لا أظنني أجافي الحقيقة حين أقول إن كثرة المجازر التي أحاقت بنا، وكثرة مشاهدتنا للدماء والأشلاء والموت، أوجدت فينا حالة من التبلد الشعوري وعجزاً عن التفاعل الحقيقي مع ما يجري، وغدا تعاطفنا معها «كالبطرانين» الذين يشاهدون المسلسلات والأفلام التراجيدية فتسيل دموعهم، ليعيشوا حالة من الحزن الاصطناعي فتطمئن قلوبهم بأنهم لايزالون بشرا يشعرون!

بالأمس كنت واقفا مع الحشود في الاعتصام الذي نظمته الحركة السلفية في ساحة الإرادة، وشاهدت الأعلام واليافطات، واستمعت إلى الخطابات النارية، وسمعت نفس الشعارات ونفس صيحة: «خيبر، خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعود» بالحماس نفسه الذي كنت أسمعها به منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما، لكنني ظللت أسأل نفسي ما الذي أثارنا إلى هذا الحد؟ هل هي المجزرة؟ هل كنا بحاجة إلى كل هذا الموت لنحتشد ونصيح ونصرخ ونتوعد وندعو على اليهود بأن يفجر الله كروشهم كما كان دعاء الشيخ أحمد القطان في اعتصام الأمس، ونرفع الأحذية كما فعل النائب وليد الطبطبائي تأسيا بمنتظر الزيدي، ونحرق العلم الإسرائيلي كما فعلنا مئات المرات من قبل؟!

حصار غزة واقع منذ أشهر عديدة، وأهلها يتعرضون للقتل البطيء تحت أنظارنا جميعا، ومع ذلك كان أغلب قياداتنا العربية خائضا حتى ركبتيه في التعامل مع إسرائيل بشتى الطرق، ومنبطحا على بطنه للإدارة الأميركية التي تناصر إسرائيل، فهل كنا بحاجة إلى فيلم «أكشن» به قصف وانفجارات ودماء وأشلاء، حتى يستثار مركز التأثير في جهازنا العصبي فنتفاعل؟ وبعدها... ثم كان ماذا؟ ما الجديد هذه المرة؟ كم من مجزرة مرت ودماء أريقت وأشلاء تقطعت؟ وكم من مرة اعتصمنا وصحنا وتوعدنا وأحرقنا الأعلام، ثم عدنا إلى بيوتنا لنحتضن المخدات ونلتحف الأغطية الدافئة وننام ونحلم؟!

أرجو ألا يساء فهمي، فأنا لا أرفض أن نعتصم، فمن حق أي إنسان أن يفعل كل ما من شأنه أن يخفف من ضغوطه النفسية ويفرغ مخزونه العاطفي، حتى لو كان يريد أن يطرق رأسه بالجدران، ومن واقع التجربة على مر سنوات طويلة، فاعتصاماتنا في أغلبها لا تتجاوز هذه الدائرة، والقيادات والأنظمة العربية الحاكمة تدرك ذلك، بل تراه مفيدا لها ولاستقرارها، وها نحن نرى الاعتصامات والمظاهرات تخرج حتى في دول الأنظمة المتسلطة الواقعة تحت أحكام الطوارئ في رعاية قوات الأمن، ويعود بعدها الناس إلى بيوتهم سعداء لأنهم قاموا بدورهم.

إسرائيل تدرك أننا ظاهرة صوتية، وأن جيش محمد، الذي نناديه في اعتصاماتنا في أعقاب المجازر لن يعود قريبا، لأنه جيش ليس فيه جنود، فالرجال قوام الجيوش، وهؤلاء بعدما يصيحون ويهدرون ويرفعون اليافطات ويلوحون بالأحذية، يهدهم التعب والإرهاق فيذهبون إلى مضاجعهم ليناموا ملء أجفانهم. إسرائيل يسعدها أن نعتصم ونقصف بما في نفوسنا من شحنات عاطفية، لأن هذا يبقينا بعيدين عن أن نقصف بما في رؤوسنا من شحنات عقلية.

إن إسرائيل وفي موازاة إذاقتها لنا كل هذه المجازر واحتلالها تلك الرقعة من الأرض، قد انتصرت في معركة أخرى أهم وأخطر... لقد انتصرت حين تمكنت من جعلنا نختزل قضية فلسطين من كونها شأناً وفريضة دينية لكل المسلمين وهماً قومياً لكل العرب، إلى جعلها شأنا فلسطينيا خاصا، ومن جعل الحرب هناك ليست حرب أهل فلسطين فحسب بل حرب أهل غزة و«حماس»، حتى أصبحت اليوم مجزرة غزة مجرد كارثة إنسانية أخرى كتلك التي تحيق بشعوب العالم يوميا.

حين نستطيع أن نعود جميعا، وعلى مستوانا الشخصي فردا فردا وجماعة جماعة وحزبا حزبا، إلى الشعور بجرح فلسطين بأنه جرحنا، وأن الحرب حربنا جميعا، وأن هذا الصراع هو همنا ومدار تفكيرنا المستمر، ومصب دعمنا الدائم ماديا ومعنويا بقدر استطاعتنا، فحينها يحق لنا أن نزايد فنلوم مصر لأنها لم تفتح معبر رفح، وشيخ الأزهر على تصريحاته الحمقاء، وقطر لأن فيها مكتب تمثيل تجاري إسرائيلي!