منذ تجلت الثورة العلمية في أوج ازدهارها، منتجة تقنية الحاسوب و«التواصل السيبري»، وشبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) تقدم خدمات لا تحصى للمناضلين الإلكترونيين؛ إذ كانوا أول من تلقف هذا الاختراع، موقنين أنه «باب للخلاص» من السيطرة والتحكم الغاشمين للسلطة في الدولة المستبدة، والوسيلة الأكثر أمناً وسلاسة وسرعة في النفاذ في كل ما عُرف من وسائل، والأهم من ذلك قدرتها على تحقيق التنصل وإمكانية التحلل من المسؤولية وقت الحسم. إذ واصلت الدولة المستبدة قسوتها وخطلها، واستمر العدو في غيه واستعلائه، وانحسر المناضل المحترف في علب حزبية مأزومة منزوعة المخالب، أو على سلالم مجتمع مدني رخوة ومكسورة، وتفتحت ملايين الزهور طالعة من فتنة المراهقة، ومقبلة على فورة الشباب، راغبة في غد أفضل، ومكان، ومكانة، فوجدت كل ذلك الخراب والانسداد واليأس، فمدت بصرها إلى هذا الفضاء الافتراضي الآسر، ومنه وفيه وعليه عاشت وأينعت وتفاعلت... وناضلت.
نشأ النضال الإلكتروني كتعبير عصري عن مكبوت قسراً، فما صوره؟النضال عبر غرف الدردشة؛ باصطياد الداخلين للتو، وأصحاب الرؤى الملتبسة والمهزوزة، حيث نسحبهم إلى رؤانا ومعتقداتنا ليتبنوا مواقفنا. وهؤلاء المعادون؛ نقارعهم وندحرهم أو نطردهم. بناء المجموعات البريدية Mailing Lists، وتبادل الرسائل التعبوية عبر البريد الإلكتروني، والتصويت في الاستطلاعات الإلكترونية، نزاهة أو التواء، من أجل ترجيح أفكارنا وتعزيز مواقفنا، وشن الحرب الإلكترونية، بابتكار الوسائل الهدامة، لتخريب مواقع خصومنا وأعدائنا، ورسائل إلكترونية لجمع التبرعات لأغراضنا «النبيلة»، أو للحض على مقاطعة «أعدائنا ومنتهكي مقدساتنا»، أو تنظيم التجمعات والوقفات الاحتجاجية.الأمر أيضاً قد يتصاعد إلى تنظيم إضراب عام أو اعتصام أو تظاهرة، وفي أحيان أخرى شرح لاستراتيجيات الجهاد وتكتيكاته ولوجيستياته؛ ومن ذلك كيفية صنع العبوة الناسفة، وتركيب الحزام الناسف، وقنص عنصر من عناصر العدو، أو تفجير مرفق عام، أو الدفاع عن النفس باليد العارية في مواجهة مسلح.نجح «النضال الإلكتروني» في تحقيق اختراقات عدة، وبلغ نتائج غير متوقعه، فما الذي عزز فرصه؟الجغرافيا؛ لا قيود جغرافية تؤطر عملية النضال الإلكتروني؛ فيمكنك أن تبث رسائل نضالية ناجحة، وتدير معركة مثمرة، وتحصد نتائج مبهرة على الأرض في شارع عبد الخالق ثروت في القاهرة، أو في حي الأعظمية ببغداد، بينما أنت جالس على مكتبك، خلف جهاز الكمبيوتر، في «ميربل إيرش»، في لندن.المسؤولية؛ سيكون من الصعب تحديد مسؤوليتك عما قمت به عبر «نضالك الإلكتروني»، وإن تم التوصل إليك، فإمكانات التنصل أوسع مما هو متوافر في حال النضال التقليدي.الأثر الواسع المستدام؛ فالأثر لا يقتصر على مستهدفين بعينهم، لوقت محدد، بل هو أثر واسع مستدام، يستهدف آخرين، وعلى مدار الزمن.الحرية؛ يعطيك الفضاء الإلكتروني حرية واسعة في اختيار الموضوعات والزوايا والمعالجة، كما يمنحك إمكانات فنية يمكنها التأثير إيجاباً في مدى فاعلية الرسالة.النضال الإلكتروني أوجع الدولة المستبدة وأهانها أيضاً، فما خطتها لمواجهته؟تتحكم الدولة من المنبع في إنشاء المواقع أحياناً، وتنشئ فرقاً إلكترونية مضادة للرد على المتحاورين، وإقناعهم بحجج الدولة والحزب والحكومة، أو لتخريب المواقع المستعصية، وتلزم شركات الاتصالات بالمسؤولية عما تحمله المواقع «المناضلة»، أو ترفع تكلفة الإنترنت، وتراقب البريد الإلكتروني، وتجبر مقاهي الإنترنت على تسجيل أسماء المترددين عليها. وقد تطور الدولة وثائق وقوانين ونظماً تمكنها من إخضاع سلطة التدوين والتفاعل عبر الشبكة للرقابة والعقاب فيما تعتبره «مساساً بالثوابت الوطنية»، أو «تكديراً للسلم العام»، أو أي من العبارات المطاطة التي يقصد بها إبقاء سيف الحكم مصلتا على رقبة كل تعبير إعلامي من أي جنس.وأخيراً قد تضيق الدولة على «المناضل الإلكتروني»، تضربه أو تهينه، أو ينفد صبرها، فتعتقله، وتحاكمه بإحدى التهم المكرورة المبتذلة، وتلقيه في غياهب السجون.وكما سنرى جميعاً، فإن حسنات «النضال الإلكتروني» تبدو أكثر من سيئاته، ونتائجه على الأرض تبدو أعظم من المبذول فيه، في حال تمت مقارنته بالنضال التقليدي؛ ذلك الذي يرسخ فيه المناضل على الأرض، معلناً عن ذاته متحملاً مسؤوليته، فينظر في عيني مناصره... فيلهمه، وفي عيني جلاده... فيرعبه، ويتلقى الأذى والاستهداف معتصماً زاهداً ومقيماً، ولا يبدل تبديلاً. فإذا كان المشاة هم سادة المعارك، ومن دونهم لا تحسم معركة، ولا يعلن النصر فيها كاملاً؛ فكذلك المناضلون المحترفون... مشاة النضال الذين نحتاجهم، كما نحتاج التمهيد النيراني والقصف الجوي من «المناضلين الإلكترونيين».لا تستبدلوا «المناضل الإلكتروني» بـ«المناضل التقليدي»، ولا تتوقفوا عن النضالين.* كاتب مصري
مقالات
النضال عبر الشبكة
31-08-2008