عصر الدراما التلفزيونية

نشر في 03-10-2008
آخر تحديث 03-10-2008 | 00:00
 محمد سليمان الخطر الحقيقي الذي تواجهه الدراما التلفزيونية يتمثل في ابتعاد النقد عنها وتقاعس النقاد الجادين والكبار عن الانشغال بها ومتابعتها.

في بداية الخمسينيات غنى المطرب الشاب في ذلك الوقت عبد الحليم الحافظ قصيدة «لقاء» لصلاح عبدالصبور الذي كان شاعراً شاباً قادماً من الريف يبحث عن بداية لرحلته الشعرية وعن مكان ومكانة في القاهرة، ثم ابتعد الشاعر بعد ذلك عن الطرب والمطربين وانخرط في تيار التحديث الشعري وصار واحداً من أهم رواده، رغم هذه البداية كان عبدالصبور يحذر الشعراء الشبان في أوائل السبعينيات من كتابة الأغنية التي ستجبرهم على تقديم تنازلات فنية لا حصر لها وعلى التضحية بمواهبهم وقدرتهم على التحديث وبالشعر في النهاية وكان أيضاً يحذر كتاب القصة والرواية من غواية المسلسل الاذاعي والتلفزيوني معلناً أن الثرثرة والسطحية والتكرار والرغبة في الانتشار ستجبر الروائي أو القاص على التخلي عن جماليات فنه وجوهر تجربته، ولم يعش صلاح عبدالصبور ليرى ازدهار عصر الصورة وسطوة الدراما التلفزيونية التي اجتاحت المنازل والاكواخ والقصور وصارت على ما أظن فن الشارع الأول، خصوصا في الأعوام الأخيرة، والمثير أن موقف صلاح الذي رحل قبل سبعة وعشرين عاما مازال قائماً ومؤثراً حتى الآن، فمعظم المبدعين والكُتاب ينظرون الى الدراما التلفزيونية بارتياب ويخرجونها أحياناً من دوائر الإبداع موجهين اليها التهم القديمة ذاتها، ناسين أثر هذه الدراما على ملايين المشاهدين ودورها التنويري وقدرتها على تحريك الواقع أو إعادة تشكيله، هذا الموقف دفع أسامة أنور عكاشة وهو أحد كُتاب هذه الدراما البارزين الى الدفاع عنها قائلاً في جريدة المصري «الدراما التلفزيونية هي الفن الثامن إذا كانت السينما هي الفن السابع وهي الجنس الأدبي الرابع بعد أدب القصة والرواية وأدب المسرح وأدب الشعر، ولأن كبار العائلة الأولى يغارون على مكانة السينما من المنافس الشقي الذي اجتذب الملايين فقد شنوا حملاتهم على الفن الجديد وكذلك فعل رهبان العائلة المقدسة الثانية المتنسكون في محاريب وصوامع الشعر والقصة والرواية «والمدهش أن هذا الموقف القديم الجديد لم يمنع معظم كتاب الرواية والقصة من الترحيب بتحويل أعمالهم الى دراما تلفزيونية تنقل هذه الاعمال من دائرة القراء الضيقة الى دائرة المشاهدين الأرحب والاخطر والأقدر على التأثير وترسيخ وجود المبدع وبناء شهرته، فالدراما السينيمائية والتلفزيونية ساهمت بالدور الأكبر في صنع نجومية محفوظ، يوسف إدريس، توفيق الحكيم، طه حسين، وعدد كبير من كتاب الستينيات والسبعينيات، وأحسب أن الأعوام القادمة ستشهد إقبالاً متزايداً من الكتّاب على تحويل أعمالهم الى دراما تلفزيونية بسبب انحسار القراءة وتراجع سطوة وأهمية الكلمة المكتوبة.

الموقف السلبي من هذه الدراما لم يعد مُبَرراً فقد أصبحت فناً جماهيرياً جيدُه قادر على شحذ الوعي والتثقيف والتنوير والارتقاء بالمُشاهد والالتصاق بذاكرته وشغله بقضايا المجتمع وتحولاته،

لكن الخطر الحقيقي الذي تواجهه هذه الدراما يتمثل في ابتعاد النقد عنها وتقاعس النقاد الجادين والكبار عن الانشغال بها ومتابعتها، رغم مبادرة الناقد الراحل د.عبد القادر القط الذي اكتشف قبل عشرين عاماً أثرها وخطرها وأهمية الإرتقاء بها، فكتب عن بعض المسلسلات التلفزيونية في جريدة «الأهرام» وفي مجلة إبداع التي كان يرأس تحريرها في الثمانينيات وأعلن أن هذه الدراما قد صارت فناً مستقلاً له أدواته وغاياته وقدرته على التأثير والتغيير، ودعا النقاد الى الاهتمام بها والكتابة عنها وتوجيهها، لكن مبادرة عبدالقادر القط وكتاباته لم تخرج النقاد من صمتهم ولم تدفعهم الى تغيير موقفهم ربما بسبب كثرة المسلسلات المذاعة وصعوبة متابعتها، وأيضاً بسبب انشغال معظم النقاد بالدراسات اللغوية وبالنص المكتوب وأدواته وعلاقاته بالنصوص الأخرى وابتعادهم بالتالي عن امتلاك أدوات نقد الدراما التلفزيونية، وهذا القصور هو مسؤولية الجامعات ومعاهد النقد الفني وأكاديمية الفنون وهي الجهات التي كان عليها أن تدرك أن هذه الدراما قد صارت اليوم فن الشارع الأول الذي يؤثر في لغة الناس وسلوكهم وعلاقاتهم بالواقع وأنها لهذا السبب أكبر وأخطر من أن تُترك للممثلين والمخرجين وحدهم.

* كاتب وشاعر مصري

back to top