في تعاليمه يضبط الإسلام النسب بين الضروريات والحاجات والتحسينات، بحيث لا تطغى إحداها على الأخرى، في تصاعد نحو التطرف أو انحدار باتجاه اللامبالاة، فمن يريد أن يحول التحسيني ليأخذ حكم الضروري فهذا إفراط، ومن يريد أن يهبط بأحكام الضرورات لتصبح من قبيل التحسينات فهذا تفريط، والصواب أن تأخذ كل حالة حكمها، وما تستحقه من اهتمام من قبل الإنسان، في مرونة لا تهمل الظروف الاستثنائية، ولا تنكر التغير الاجتماعي والتطور الحضاري، وفي زماننا هذا انحدر أغلب المسلمين إما إلى تطرف يرفع التحسيني إلى مرتبة الضروري، وإما إلى تفلت يهمل الضروريات إهماله للتحسينات. وفي الاتجاه غير المادي انعكس هذا الوضع على حرية التعبير من زاوية التعامل مع بعض الأفكار على أنها مسألة حياة أو موت، فإذا لم ترق الفكرة للمؤسسة الدينية حاربتها بلا هوادة، وكأن وجودها أو الجدل معها، يعني القضاء على الدين، وإذا صادفت قبولها دافعت عنها باستماتة وكأن غيابها يعني نهاية الحياة.

Ad

والخصوصية الثالثة للمنهج الإسلامي هي الانتقال من الظني إلى القطعي، حيث نجد أن التثبت من كل خبر، والتحقق من أي معلومة، قبل إبداء الحكم هو دعوة يكرسها القرآن الكريم، «ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان مسؤولا» (الإسراء: 36).. «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا» (الحجرات: 6). وهذا التحقق يخص «عالم الشهادة»، لأنه يبحث عن أدلة مادية محسوسة. أما بالنسبة لـ«عالم الغيب» المرتبط بالعقيدة، فإن الإسلام لم يترك مجالا للوهم والخرافة فيه، ودعا إلى التسليم به، كما هو، لأن العلم بمناهجه واقتراباته لا يمكن أن يضعه تحت المجهر، أو يخضعه للتجريب، ومن ثم يقول الكثيرون من العلماء المختصين في العلوم الطبيعية «حين ينتهي العلم يبدأ الدين» أي أن ما لا يستطيع العلم أن يبلغه بوسائله لابد من اللجوء إلى الدين للوقوف عليه. ومع ذلك قدم النص القرآني إشارات عديدة يمكن أن يستدل بها العقل البشري في تصوره للغيب.

واستفاد المسلمون الأوائل من التصور القرآني للعلم، ومن احترام الإسلام للعقل، فدشنوا مناهج تجريبية في دراسة الطبيعيات، الأمر الذي شهد له بعض علماء الغرب أنفسهم، من بين أولئك الذين يؤمنون بالتراكم الحضاري ويرفضون «النزعة المركزية الأوروبية» التي تحاول أن تروج ادعاءات حول ارتباط العلم الحديث بالحضارة الغربية فقط، وعدم إسهام الحضارات الإنسانية الأخرى، وفي مقدمتها الحضارة الإسلامية، في ما توصل إليه الغرب حاليا من تقدم علمي كبير. فهاهو بريفولت يؤكد في كتابه «صناعة الإنسانية» أن الحضارة الإسلامية جادت بالعلم، وكان لها عظيم فضل على الحياة الأوروبية المعاصرة، وأنه لا يمكن إرجاع أي مظهر من مظاهر الحضارة الأوروبية إلا إلى عطاء المسلمين، باعتبار أن حضارتهم هي التي سبقت حضارة الغرب مباشرة، ومن منطلق التجاور الجغرافي والاحتكاك التاريخي مع أوروبا. ويؤكد جورج سارتون هذا الأمر حين يقول في كتابه «تاريخ العلم والإنسية الجديدة»: «إن تعدد الإضافات الإسلامية كحصيلة علمية فريدة لا يتسع المقام لها في هذا الكتاب، ولو تعمدنا أقصى درجات الاختصار. فعلماء هذا الدين قد خلفوا آثارا أعظم مما تركه اليونانيون بكثير، وكان التفوق الإسلامي كاسحا، خاصة في القرن الحادي عشر الميلادي، بحيث نستطيع أن ندرك منه السبب في كبرياء العقل المسلم... وفي حديثه عن الغرب بالطريقة التي يتكلم بها علماؤنا عن الشرق الآن».

وفي الإنسانيات سعى علماء المسلمين الأوائل إلى بناء مناهج واقترابات علمية، تعد متطورة إلى حد كبير، وقد وصل تمسكهم بهذه المناهج لدرجة تطبيقها على دراسة النص القرآني والحديث النبوي نفسيهما. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد أن الإمام الشوكاني يؤسس منهجا في تمحيص السنة النبوية يقوم، في نظر أحد التربويين المعاصرين، على «الاستقامة العلمية والموضوعية، إذ إنه يبتعد فيه عن التمذهب والتعصب في مضمونه وشكله»، وقد اعتمد هذه المنهج على محاولة تحويل الظني إلى يقيني من خلال الاستشهاد بالوقائع والبراهين الملموسة، تأسيسا على «التشكك» في بعض «المعطيات»، المتمثلة هنا في بعض روايات الأحاديث النبوية، بما يفرق بين الأحاديث الموضوعة أو المنسوبة زورا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والأحاديث الصحيحة، وبما يميز بين الأحاديث «الضعيفة» والأحاديث «القوية»، أي التي تتمتع بأسانيد أقوى في روايتها، وهذا التشكك، الذي هو أساس العلم الحديث منذ أن وضع ديكارت أطروحاته حول المنهج العلمي في كتابه الصغير والأثير «مقال في المنهج»، يقوم على أن النص القرآني نفسه أقر بمساحة مشروعة للظن، فقال «إن بعض الظن إثم» (الحجرات: 12)، ولم يقطع بتأثيم كل الظن. فهذا البعض، هو الذي يسمح للإنسان بأن يطلق عقله ليميز بين الخبيث والطيب، والنافع والضار، والحقيقي والملفق.

* كاتب وباحث مصري