ثقافةُ الأنفاق
أنفاق المواصلات في لندن لها أكثر من جاذبية لأكثر من فعالية ثقافية، ولعل نشاط ملصقات الإعلان في مقدمها، لأنَّ عددَ الأفراد الذين يشغلون خطوطَ النقلِ الخمسة عشر يُقدّر بالملايين يومياً.
وعادة ما تُمارس هذه الفعالية الثقافية في أبهاء المحطات تحت الأرضية، وعلى أرصفتِها الطويلة، باستثناء فعاليةِ القراءة، التي تتم في عرباتِ القطار ذاتها. الإنكليزي اعتاد، منذ نشأة هذه الأنفاق في أواخر القرن التاسع عشر، على الانتفاع من الزمن الذي تستغرقه الرحلة، والذي يمتد أحياناً لساعة أو أكثر، لمصلحة القراءة، ودور النشر بدورها صارت تقدم، بكثافة، الكتبَ الملائمة، وعادة ما تكون رواياتٍ، أو كتب سيرة مشوّقة. الإعلانات التي تزيّن الأبهاء والأرصفة تحت الأرضية غاية في الاستثارة البصرية الجمالية، حتى لتكاد ترتفع إلى مستوى البوستر الفني، والسبب أن أكثر هذه الإعلانات لها هدف ثقافي في النهاية: إعلان عن فلم، إعلان عن كتاب جديد، إعلان عن معرض تشكيلي، عن معرض تاريخي في متحف، عن كونسيرت موسيقي، عن أوبرا أو باليه، عن مسرحية. وفي هذه التظاهرة النافعة تتلصّص فرصُ الانتفاع الاستهلاكي. قبل فترة اجتهدتْ دائرة النقل بمشروع شعري يخص نشاطَها التحتي، وأصدرت مُلصقاتٍ بيضاء تحتوي على نصوصٍ شعرية مختارة، من الإنكليزية وغير الإنكليزية، تجد نسخها مُلصقةً داخلَ كلِّ عربة، ثم صارت تُصدر هذه القصائد المختارة في كتابٍ سنوي. واجتهدت أيضاً بأن انتخبت محطّاتٍ تحت أرضية بعينها، جهّزتها بمكبراتِ صوتٍ لإذاعة الموسيقى الكلاسيكية. ولقد أصدرت تقريراً تتمتّعُ لغتُه بمعنوياتٍ عالية، تؤكدُ فيه أن حال التوتّرِ والشغب، التي كانت تتعرض لها هذه المحطات، سرعان ما تلاشت على أثر شيوعِ الموسيقى الكلاسيكية. إن عدداً غير قليل من الناس من تجده يتمهّل، ليقرأ الملصقات على الحيطان، ويتأمّلها. فهناكَ معلومةٌ نافعةٌ عن العروض، وأوقاتها، وأسعارِ تذاكرها إنْ لم تكن مجانية، وهناك من يتوقف أيضاً ولكنْ ليصغي، لأن هذه الأنفاق والأبهاءَ فضاءٌ أكثر من ملائم للموسيقيين والمغنّين، عازف الآلة الموسيقية: طبلة شرقية، إفريقية، آلة وترية، أو هوائية، أو مجموعة عازفين. وقد يكون الأداء كلاسيكياً هادئاً، أو حديثاً مفعماً بالحركة. لكنه في كلِّ الأحوال لن يكونَ صاخباً، ضاجاً، يقف الفنان في ركن بعيد عن طريق المارة: آلة بين يديه، وعلى الأرضِ أمامَه فَرشةٌ صغيرة، حقيبةٌ مفتوحةٌ، أو قبّعة لجمع إسهامات المعجبين، إنه عملٌ بالتأكيد، ولكن العاملَ فيه طليقٌ، وما من عيبٍ في العمل الفرِح الطليق. وفعاليةُ المتلقي من الناس، قارئاً، مُشاهداً كان، أو مستمعاً، في هذه الأنفاق، إنما تتم في زمن متميّز المذاق، لأنه زمن انتظار في جوهره، وإذا كان الزمن في حياتنا اليومية يتحرك إلى الخلف، فإن زمنَ الانتظارِ هذا يبدو وكأنه يتحرّك إلى الأمام: انتظار القطار الذي سيأتي، انتظار الخروج من النفق، انتظار الوصول إلى العمل أو البيت فيما بعد، إنه زمنٌ بطيء، حتّى ليبدو ساكناً. وهو لهذا السبب أولى بالقراءة، بمشاهدة اللوحة، بالإصغاء للقطعة الموسيقية أو الأغنية. قبلَ أيام كنت أنتظرُ دوري لرؤيةِ الطبيب، في بهو المستوصف المحلّي. على الطاولة مجلاتٌ مستعملة، كتبُ أطفالٍ، منشوراتٌ صحية عديدة، المشهد مألوف ولمْ يحرِّك بي ساكناً. رغم رغبتي في قطعِ الوقت بالقراءة، بين الأوراق الملوّنة كرّاسةٌ غاية في الزهد، وبلون واحد، كانت مجرّد ورقة كارتونية مطويّةٍ ثلاثاً، على صفحتها الأولى قرأتُ «قصائد في غرفةِ الانتظار»، قلّبتُ الطياتِ فتعرّفتُ على نشرةٍ تُصدرها لجنةٌ ثقافيةٌ في الدائرةِ الصحية، نشرةٌ دوريةٌ تنتخبُ شعراً، تراه منسجماً مع زمن الاستشفاء. قرأتُ روبرت براوننغ، توماس مور، جون كلير، وآخرين معاصرين لا معرفةَ لي بهم، زمن الاستشفاء لا يختلفُ كثيراً عن زمن الأنفاق، كلاهما زمن انتظار، يتحرّكُ بطيئاً، حتى ليبدو ساكناً.