الاسم جعفر واللقب "ذخيرة الملك” ولأنه كان للرجل كفل من لقبه ولاه الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله منصب متولي الشرطة بالقاهرة في عام 516 هـ وأضاف إليه النظر في الحسبة أيضاً .

Ad

جاء ذخيرة الملك جعفر إلى قلب التاريخ القاهري في زمن تدهورت فيه سلطات الخلفاء الفاطميين وانتقلت صلاحياتهم رويداً إلى أيدي الوزراء من أرباب السيف (العسكر) وأتباعهم من حكام الولايات، فكان كل منهم يتصرف فيما تحت إمرته على هواه لا يدفعه عن ظلم مدافع ولا يمنعه من مغنم ممانع إلا طامع حاسد يتوقى للاستيلاء على ما بيديه من سطوة أو جاه.

وفي ظل انهيار سلطات الآمر بأحكام الله وضياع هيبة وأبهة منصب الخليفة، أحس جعفر أنه الرجل الأقوى في القاهرة، فهو وحده المسؤول عن الأمن ومتابعة اللصوص ( وما أكثرهم آنذاك ) وهو أيضاً المنوط به مراقبة سير الحياة اليومية بالقاهرة في المآكل والمشارب والنقود والموازين وفي البيع والشراء والآداب العامة. إنه- بلغة عصرنا- المسؤول الأول عن الأمن والتموين والتجارة والصناعة والتعليم وإقامة الشعائر الدينية.

في البداية طارد متولي الشرطة الجناة والمجرمين ليس فقط في داخل الإطار الذي رسمه الشرع الحنيف بل تجاوزه بكثير فأبدع في عذاب الجناة وأهل الفساد وخرج عن حكم الكتاب وأراد ذخيرة الملك أن يتشبه بالخليفة وقد فاقه قوة وسطوة، فشرع في بناء مسجد ليحمل اسمه مخلداً عبر العصور مثلما شيد الأمر بأحكام الله الجامع الأقمر.

اختار جعفر لمسجده بقعة من الأرض كانت تقع آنذاك على أحد محاور الاتصال المهمة بين مدينة مصر (الفسطاط) ومدينة القاهرة بامتدادها العمراني ناحية الجنوب وقد يقول قائل بأنه أراد لمسجده أن يظل عالقاً بأذهان وأبصار المنتقلين بين مصر والقاهرة، يبصرونه في موقعه عند كل ذهاب وإياب فيذكرون مشيده بكل الخير ولكن الحقيقة كانت غير ما نظن.

كان ذخيرة الملك قد قرر بينه وبين نفسه الأمارة بالسوء أن لا يغرم درهماً على مسجده، ولذا فقد عين له هذا الموقع ليقبض على العمال والصناع الذين ينتقلون من الفسطاط للعمل بمدينة القاهرة أثناء فترات النهار، ولا يستطيع صانع أو عامل أن يغادر موقع البناء إلا في نهاية النهار بعد ما يكون قد كد وجد في بناء مسجد الذخيرة دون أجر وكثيراً ما لجأ متولي الشرطة إلى تقييد الصناع لإكراههم على العمل سخرة.

ويقول ابن المأمون في تاريخه إن جعفر كان يقبض الناس من الطريق ويعسفهم ويقيدهم ويستعملهم فيه بغير أجرة، فلم يعمل في مسجده منذ أنشأه” إلا صانع مكره أو فاعل مقيد” فعل جعفر ذلك وهو المحتسب المطلوب منه أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر، والمنوط به على سبيل المثال، منع مؤدبي الصبيان في الكتاتيب من ضربهم ضرباً مبرحاً.

وأتم صاحب الشرطة بناء مسجده الذي أسماه "مسجد الذخيرة” ولكن العامة أطلقت عليه تسمية أخرى قدر لها أن تغلب على اسمه الأول فقد اشتهر هذا المسجد الذي يشغل موقعه الآن مسجد الرفاعي باسم " مسجد لا بالله " بحكم أن الصناع الذين كانوا يساقون عنوة للعمل فيه سخرة دون أجر كانوا يحلفون ذخيرة الملك أن يخلي سبيلهم بقولهم” لا بالله” وإذا كان هذا هو مسلك عامة الشعب في الانتقام من الطرق المعوجة التي لجأ إليها جعفر ليشيد بيتاً من بيوت الله فإن الشعراء قد خلدوا أفعاله الشائنة، عندما كتب عن مسجده شاعر- لم يصلنا اسمه- بيتين من الشعر يجمعان ما تفرق من سيرة ذخيرة الملك فقال "لا فض فوه”:

بنى مسجداً لله من غير حله

وكله بحمد الله غير موفق

كمُطعِمة الأيتام من كدً فرجها

لك الويل لا تزني ولا تتصدقي

أما العقاب الإلهي الذي نزل بذخيرة الملك جعفر فكان أشد وأعتى، فيذكر المقريزي أنه "إابتلى بالأمراض الخارجة عن المعتاد ومات بعد ما عجل الله له ما قدمه وتجنب الناس تشييعه والصلاة عليه، وذكر عنه في حالتي غسله وحلوله بقبره ما يعيذ الله كل مسلم من مثله”.

وذهب جعفر إلى حيث يشاء الله واندثر مسجده الذي لم يؤسس على تقوى، وبقيت أحكام الشعب والتاريخ مخلدة في بيتين من شعر وصرخة المظلومين.. "لا بالله ".