مساء الثامن والعشرين من أكتوبر الماضي، حلت الروائية الأميركية الإفريقية «توني موريسون» ضيفة على جمهور قاعة الملكة اليزابيت في «ساوث بانك» بلندن، لمناسبة صدور روايتها الجديدة «رحمة».

Ad

وفي تلك الأمسية التي قرأت فيها صفحات من الرواية الجديدة، وأجابت عن الكثير من أسئلة الحضور، بدت «موريسون» متوازنة بثبات بين علو مكانتها ككاتبة وشدة تواضعها كإنسانة، إذ إن هذه المبدعة ذات الموهبة الكبيرة، والحائزة على جائزة نوبل عام 1993، وجائزة النقاد الوطنية، وجائزة بوليتزر، أفعمت الجو، أثناء حضورها القصير نسبيا، بعطر بساطتها وعذوبتها وبدفء حديثها الذي حرصت على أن تكون فواصله ابتسامات وضحكات نابعة من القلب.

تحدثت «موريسون» خلال الأمسية عن طبيعة أدبها، وعن مشاعرها حين نيلها جائزة نوبل للآداب، وعن رأيها في ما كتب عنها بعد ذلك، وعن ظروف كتابتها رواية «رحمة» التي شاءت أن يكون مسرحها القرن السابع عشر. غير أن حديثها وبأثر من أسئلة عريفة الأمسية والجمهور، قد مال في جانب منه إلى انتخابات الرئاسة الأميركية الراهنة، وظاهرة «أوباما» كأول رجل من أصول إفريقية يسعى لدخول البيت الأبيض.

في هذا الشأن رأت «موريسون» أن ترشح أوباما يعني أن أشياء كثيرة قد تغيرت في أميركا، على الرغم من أنه لا يزال هناك شعور بالخوف لدى الأميركيين مما يسمى «أثر برادلي».. وذلك في إشارة منها إلى تجربة «توم برادلي» الأميركي الإفريقي الذي سبق أن ترشح في عام 1982 لمنصب حاكم كاليفورنيا وكانت الاستطلاعات تظهره، على الدوام، متقدما على منافسه الأبيض، لكنه في النهاية خسر بشكل فاجع، مما كشف عن أن الناس- بدوافع عنصرية كامنة- قد أعلنوا في الاستطلاعات عكس ما كانوا يبطنون. لكنها، مع ذلك تعتقد أن هذا «الأثر» ربما سيكون عكسيا بالنسبة لأوباما، بسبب اختلاف شخصية برادلي، وبسبب كون المشاعر العنصرية لدى البيض قد اختلفت هي أيضا، كما لو أنهم قد ملوا من الكراهية.

ومن ناحية أخرى أشارت تلميحا إلى سوء حقبة بوش الابن، بقولها: إن أوباما قد اعتاد في خطبه الإشارة بصورة نمطية إلى أن الناس إذا انتخبوه فإنهم لن ينتخبوه لشخصه، ولكن من أجل أنفسهم.. وأعتقد أنه على حق في ذلك لأن الحياة في أميركا قد انحطت على كل صعيد خلال الأعوام الأخيرة، إلى درجة أن المواطن الأميركي صار يشعر بأن ليس من حقه أن يمرض، لأنه في هذه الحالة لن يكمل علاجه إلا بإعلان إفلاسه! وعندما سئلت عما إذا كانت قد فكرت يوما بأنها ستحيا للوقت الذي ترى فيه رجلا من أصل إفريقي يترشح لانتخابات الرئاسة الأميركية، كانت إجابتها غريبة وطريفة وغير متوقعة، لكنها ربما كانت الإجابة الأصدق، فقد قالت: إنني بصراحة لم أفكر في هذا الأمر من قبل، لسبب بسيط هو أنني لا أدري لماذا يطمح أي شخص- سواء أكان أبيض أم أسود- لمثل هذه الوظيفة؟ إنها بالنسبة لي ليست من الوظائف المغرية!

وبعيدا عن هذا الموضوع تحدثت «موريسون» عن شعورها بعد فوزها بجائزة نوبل، فقالت إنها كانت في تلك الفترة عاكفة على كتابة روايتها «فردوس»، وقد شعرت لأول مرة، بأن هناك عيونا كثيرة مسلطة على كل كلمة تكتبها ولهذا فقد جاهدت من أجل إخراج هذا الإحساس من داخلها مثلما تطرد الأرواح الشريرة، وذلك لكي تستطيع أن تواصل الكتابة على سجيتها الأولى.

وقالت إنها، بعد فوزها قرأت الكثير من المقالات والدراسات التي كتبت عنها، فرأت أنها كانت تشرق وتغرب حول أعمالها، وتزعم أنها أرادت أن تقول كذا وكذا.

فلما سئلت عما إذا كانت تعتقد بصحة ما قاله النقاد، أجابت ضاحكة: من الممكن أنهم قد رأوا أشياء لم أرها أنا وجميل أن يتعلم المرء منهم شيئا لم يكن يعلمه عن نفسه!

إن موريسون تذكرنا هنا بموقف الأميركية «بيرل باك» من خطل المدائح التي غمرها بها النقاد بعد صدور روايتها الشهيرة «الأرض الطيبة» عام 1913.

أما الآن فهي تشعر بأن هناك امرأة ذات مكانة اسمها «توني موريسون» واقفة تحت الأضواء، وهي تتمنى أن تكون هذه المرأة مستحقة لهذه المكانة وأن تكون بالفعل طيبة وذات فائدة للآخرين. وأما هي «كإنسانة» فتشعر بأنها واقفة وراء تلك المرأة لكن عندما سألتها عريفة الأمسية: «أيكما التي تكتب الروايات؟» ردت بضحكة عريضة: «أنا طبعا»! وعمن تأثرت بكتاباتهم قالت: لقد قرأت للكتاب العالميين المعروفين ولابد أن أكون قد تأثرت بهم، لكن الأثر الأكبر كان للكتاب الأفارقة وأعني بهم الأفارقة البعيدين لأنهم هناك يكتبون بطريقة مفتوحة ومبسوطة للجميع بوضوح وموجهة للنفس الإنسانية بصفة عامة، وليس من أجل جمهور محدد، مثلما فعل الأميركي الإفريقي «رالف أليسون» في روايته «رجل خفي»... إن روايته ممتازة لكنها بدت وكأنها موجهة للجمهور الأبيض، فهو قد أوحى بذلك حتى من خلال العنوان، إذ إنه لو كتب للسود لما احتاج لأن يكون «خفيا» فهو خفي هنا بالنسبة للبيض وحدهم!

وعما إذا كان قد دخلها الندم على شيء سبق أن كتبته أجابت بالإيجاب، ثم أردفت بشكل مفاجئ أنها الآن مثلا، عندما كانت تقرأ صحفات من روايتها «رحمة» انتبهت إلى أن هناك ثلاث كلمات في جملة واحدة قد جاءت «مسجوعة» فتمنت لو أنها تستطيع تغييرها!

وأضافت: إنني نادمة تماما على كوني قد شعرت بنوع من الكراهية لإحدى شخصيات روايتي «العين الأكثر زرقة»... إذ لعله سيبدو واضحا بالنسبة للقارئ أنني «شخصيا» قد كنت حاقدة عليها، وهذا يعني أنني تجاوزت كثيرا على حقها كشخصية، بينما كان ينبغي لي ككاتبة ألا أفعل ذلك، فواجبي هو أن أسجل الوقائع بحياد، لا أن أعلن احتجاجي بوضوح على إحدى الشخصيات.

وقالت إنها تتمنى أن تعود لتصحيح مسار كثير من الأشياء التي وردت في كتبها السابقة وأردفت ضاحكة أنها كانت قد اقترحت على الناشرين إذا ارتضوا أن تعيد كتابة بعض كتبها من جديد، لكن يبدو أن لا أحد منهم كان مهتما بمثل هذا الاقتراح!

وفي السياق نفسه اعترفت قائلة: إنني خلال عملي على روايتي الأخيرة «رحمة» كنت قد كتبت مشهدا جميلا جدا عن شخصين يصطادان «خنزيرا بريا» وقد كثفت المعلومات والشروح بهذا الخصوص، منذ صيد الخنزير حتى سلخه وتنظيفه وشيه، وقد كنت فخورة بكتابة هذا المشهد، لكنني في لحظة ما، خطر لي بفضول أن أعاود القراءة حول الخنازير البرية في أميركا، فوقعت عيني على جملة صدمتني وبددت ذلك المشهد، تلك الجملة تقول إن «الخنزير البري» قد وصل إلى أميركا مع المهاجرين الألمان، الذين جلبوه لأغراض الصيد في بدايات القرن التاسع عشر، فيما أحداث روايتي تدور في نهايات القرن السابع عشر!

وهذا يعني أن موريسون قد «أوجدت» الخنزير البري في أميركا، قبل وجوده الفعلي بأكثر من قرن، وعلى هذا فإنها استبدلته بالدب، لأن جوهر المشهد هو أن يكون فيه حيوان شرس ومخيف يجب أن يقتل.

وفيما يتعلق بزمن رواية «رحمة» سئلت موريسون عما دعاها إلى اختيار القرن السابع عشر، بينما المتوقع منها أن تتقدم إلى الأمام لا أن تعود إلى الماضي، فقالت إنها نفسها قد استغربت من اختيارها هذا، لكن رغبة عارمة دفعتها للعودة إلى أميركا التي كانت بكرا تماما، حيث لم تكن «العبودية» مختصة بالسود وحدهم، أي أنها لم تكن عبودية عنصرية مسجلة بالقانون، بل كانت تشمل جميع الأجناس من البشر الواقعين كأرقاء ومماليك لدى الإقطاعيين.

وقد كان هدفها من ذلك هو أن تمنح صوتا لأولئك الناس البسطاء الكثيرين المغمورين، ممن لعبوا أدوارا كبيرة، من وراء الستار، فشكلوا أو غيروا الأحداث الكبرى، من أجل أن تصل أميركا إلى ما هي عليه اليوم.

* شاعر عراقي - تنشر بالاتفاق مع جريدة «الراية» القطرية.