اليمن... قبل أن تقع الكارثة

نشر في 17-05-2009 | 00:00
آخر تحديث 17-05-2009 | 00:00
 ياسر عبد العزيز لا شك أن الدعم السعودي لدولة الوحدة يسهل الكثير من الأمور على صنعاء، خصوصاً وقد تعزز هذا الدعم بزيارة نادرة لرئيس البرلمان الإيراني علي لاريجاني الأسبوع الماضي لليمن؛ حيث طمأن الرئيس علي عبدالله صالح بقوله: «إيران تدعم بقوة اليمن وأمنه واستقراره ووحدته الوطنية».

في مطلع العام 2006، قادتني ظروف العمل إلى زيارة طويلة نسبياً لليمن، تخللتها رحلة برية من العاصمة صنعاء إلى عدن في أقصى الجنوب، حيث تسنى لي سماع الكثير من الرؤى والهموم من أصدقاء وزملاء ومرافقين يمنيين، ولم يكن ثمة شكاوى واضحة سوى من شظف العيش أو التوتر السياسي التقليدي، الذي تعرفه البلاد وتعودت عليه، فضلاً عن استفحال الفساد وتعثر الإدارة وقلة حيلتها.

لكن نغمة أخرى مغايرة كانت تتردد في عدن على استحياء. كان سائق السيارة الأجرة التي أقلتني من أحد الفنادق على خليج الفيل إلى مركز المدينة ضابطاً سابقاً في الجيش، وقد أعرب عن «ضيق واضح من التهميش والتجاهل من قبل الدولة»، وتمنى «لو عادت أيام ما قبل الوحدة»، شاكياً من أن معاشه التقاعدي لا يتعدى 27 ألف ريال (الدولار الأميركي يساوي 200 ريال آنذاك)، وهو لا يكفي حاجات الحياة الضرورية في ظل ارتفاع الأسعار.

لم أترجم الشكوى إلى دلالة سياسية ما تمس الوحدة اليمنية، التي استقبلها العالم العربي بكثير من الابتهاج والاستبشار، لكنها تحولت جرس إنذار ونذير شؤم واضحين، حين سمعت شكوى مماثلة من سائق آخر يطرح الهم ذاته.

حال التذمر تلك تحولت احتقاناً سياسياً معلناً اعتباراً من مارس من العام نفسه، متخذة لنفسها اسماً حذراً وبناءً إلى حد ما: «إصلاح مسار الوحدة»، لكن ظروفاً عديدة حالت دون التعاطي معها بالاهتمام والبراعة الضروريتين من جانب الدولة، فيما وجدت فيها أصابع إقليمية وأحقاد ومنافع شخصية مجالاً خصباً للاستثمار من جانب آخر، فصار الاسم «الحراك الجنوبي»، وهو يبدو توطئة لاسم ثالث أكثر تبجحاً وأقل مداراة؛ لعله «الانفصال والاستقلال عن دولة الوحدة»، وهو أمر يجب أن يحال دونه، لأن تكاليفه أكبر من احتمال الأطراف المعنية كلها.

على مدى الأعوام الثلاثة الفائتة ظل سوء الفهم يتعمق بين الدولة وممثلي «الحراك الجنوبي»، وقد تعزز ببعض الخطايا السياسية من الجانبين، واهتزاز الوضع الأمني، وتفشي الفقر، وانفلاتات القبيلة، والانشغال بمواجهة التمرد الحوثي في صعدة، وتغذى بالكثير من الفساد المنهجي والتهميش المتعمد وغير المتعمد ضد مواطني الجنوب خصوصاً عسكرييه وموظفيه وسياسييه السابقين.

لم تستطع الديمقراطية اليمنية استيعاب الاختلاف ولا احتواء المطالب التي أخذت في التصاعد، كما ضاق صدر السلطة ببعض «الانفلات» الحاصل في الصحافة، فيما راح دعاة «الحراك» يقتربون أكثر من المطالبة بـ «الانفصال» في منتديات ومحافل معلنة وثابتة على الأرض أو في الفضاء الإلكتروني الذي صب المزيد من الزيت على النار.

وراحت المصادمات والمشاحنات والهجمات المسلحة تتواتر باطراد، حتى باتت حلقات متتابعة دورياً، وغدا في الإمكان توقع المزيد منها مع صبيحة كل يوم.

في الأيام العشرة الأخيرة من شهر أبريل الماضي، شهدت مناطق الجنوب هجومين مسلحين من «عناصر انفصالية»، أسفرا عن عدد من القتلى والجرحى في صفوف قوات الأمن والناشطين المسلحين والمدنيين، كما استهدفت مقار أمنية، وخربت محال، وحطمت سيارات، ونهبت أموالاً وبضائع ومرافق رسمية.

تقول الدولة اليمنية إن ما يجري مجرد تحركات تخريبية من عناصر «مأجورة» تستهدف الأمن والوحدة في البلاد، فيما يرى أصحاب «الحراك» أن تلك الاحتجاجات والاشتباكات تعكس الوضع «غير العادل» الذي تصر الدولة على إبقائهم فيه، ويتعهدون بالمزيد من الاحتجاجات، حتى يبلغوا الحل الذي يهدفون إليه، فيما لا يجد المحيط الإقليمي والدولي المراقب والمهتم جانياً وضحية في ذلك النزال.

فبعد عقدين على الوحدة التي أعلنت العام 1990، وبعد 15 عاماً على انتصار «دولة الوحدة» في الحرب الانفصالية التي وقعت صيف العام 1994، لم يستطع النظام البرهنة على قدرة على الإدارة الرشيدة أو تحقيق الكفاية فضلاً عن إقرار العدالة. 23 مليون نسمة يعيشون في اليمن، بنسبة أمية تتخطى الـ50 في المئة، وتحت أعباء تضخم يناهز الـ12.5 في المئة، ومعدل بطالة يبلغ 35 في المئة، يقود نحو 45 في المئة من السكان للعيش تحت خط الفقر، من دون أمل واضح في تبدل سريع للظروف.

من بين الـ23 مليون نسمة الذين يشكلون إجمالي السكان ستجد أن 46.2 في المئة تحت سن الرابعة عشرة؛ فمع متوسط عمر متوقع لا يتعدى الستين عند الميلاد بفعل تدني الخدمات الصحية وانتشار الأمراض، ومع نسبة مواليد عالية على خلفية تراجع الوعي الاجتماعي والصحي وسيادة المفاهيم الدينية المغلوطة، يتحول المجتمع إلى أغلبية واسعة يافعة شابة، تنتظر الكثير من فرص التعلم والعمل، فيما تضن الموارد المحدودة والإدارة غير الرشيدة بذلك، فتتحول تلك الأغلبية الكاسحة إلى فرص للانحراف أو الإرهاب أو التمرد.

وعلى الجانب الآخر لا يمكن النظر إلى دعاة الانفصال على أنهم أصحاب مطالب وطنية حقيقية لا تشوبها شوائب المنفعة الضيقة والحقد السياسي والاستلاب والتبعية لقوى في الخارج، ولا يمكن تصور أن الطريق الوحيد لتصحيح أوضاعهم يمر عبر الانفصال؛ فقد عاش سكان الجنوب أكثر من 120 عاماً تحت الاستعمار البريطاني، ونحو ربع القرن تحت الحكم الاشتراكي، ولم تكن أحوالهم أفضل مما هي عليه الآن.

ولعل هذا الأمر كان دافعاً لقوى إقليمية ودولية نافذة عدة لتعلن مساندتها للوحدة اليمنية ضد دعاوى الانفصال؛ وأهمها على الإطلاق كان الدعم السعودي الواضح وغير المشروط، فلم يكد الأمير نايف بن عبدالعزيز يعلن أن بلاده «تتعاون مع اليمن من دون تحفظ»، حتى أكد الأمير سعود الفيصل أن السعودية «مع اليمن في كل الطريق... وحدة اليمن عزيزة وغالية، ونأمل أن تكون التضحيات التي قدمت من أجلها حافزاً للإبقاء عليها».

لا شك أن الدعم السعودي لدولة الوحدة يسهل الكثير من الأمور على صنعاء، خصوصاً وقد تعزز هذا الدعم بزيارة نادرة لرئيس البرلمان الإيراني علي لاريجاني الأسبوع الماضي لليمن؛ حيث طمأن الرئيس علي عبدالله صالح بقوله: «إيران تدعم بقوة اليمن وأمنه واستقراره ووحدته الوطنية».

يبقى أن «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» قدم بدوره دعماً غير مباشر للوحدة بإعلانه الأسبوع الماضي تاييد «الجنوبيين» في النزاع القائم، فيما يعد إشارة إلى دعم «القاعدة» للانفصال.

فإذا دعمت السعودية وإيران صنعاء على هذا النحو غير المشروط، وساندت القاهرة ودول الخليج الأخرى الحكومة اليمنية، وسعت إلى احتواء النزاع عبر وساطة كما قالت بعض التقارير، فلا يبقى سوى رد الفعل الأميركي، الذي كان واضحاً بدوره، حين أعلنت السفارة الأميركية بصنعاء، مطلع هذا الشهر، دعمها «يمناً مستقراً موحداً ديمقراطياً ضمن المواطنة المتساوية التي تكفل الحقوق للجميع».

تلقت صنعاء إشارات عدة إيجابية لدعم موقفها في مواجهة النزعات الانفصالية، سواء عبر دعم القوى الإقليمية والدولية المؤثرة، أو بتورط «القاعدة» في تأييد الانفصاليين، أو عبر التحليلات والتقارير المتتالية عن مخاطر الانفصال أو نشوب حرب أهلية، بما يمكن أن تؤدي إليه من تصدير للإرهاب وعدم الاستقرار للإقليم. لكن اليقين لن يتعزز في دولة الوحدة، والنزعات الانفصالية لن تخمد، وتذمر الجنوبيين لن يتوقف إلا بعدما تجد الدولة حلاً لمشكلات الفساد والتهميش الاقتصادي والاجتماعي وعدم التوزيع العادل للثروة، وعندما تستوعب الحالة السياسية اليمنية جميع الفرقاء في عملية ديمقراطية تتسم بقدر من الشفافية والنجاعة كبير.

* كاتب مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top