أمين عام الإتحاد العالميّ لعلماء المسلمين د. محمد سليم العوا: تجديد الفكر الإسلاميّ ضرورة لحماية الهويّة
يعتبر المفكر الإسلامي البارز د. محمد سليم العوا (أمين عام الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ورئيس جمعية مصر للثقافة والحوار) من المفكرين الذين كرسوا حياتهم الفكرية لنصرة الثقافة الإسلامية وترسيخ قواعدها. معروف عنه تصدّيه لمعارك فكرية كثيرة يتصدرها أنصار التغريب والمدافعين عن العولمة بكل ما فيها من رغبة أكيدة لدى صانعيها في تذويب هويات الشعوب، لا سيما الشعوب الإسلامية. التقته «الجريدة» في حوار حول مخاطر العولمة وكيفية التصدي لها والحوار الحضاري المطلوب في ظل الظروف المعاصرة.
أنت من الداعين إلى ضرورة تجديد الفكر الإسلامي، هل ترى في ذلك آلية فاعلة لحماية الهوية الإسلامية من مخاطر العولمة؟التجديد في الإسلام صفة أساسية وحقيقة جوهرية تميزت به شريعة الإسلام عن باقي الشرائع السماوية الأخرى، وأصبح تجديد الفكر الإسلامي ضرورة لحماية الهوية الإسلامية من مخاطر العولمة وما تأتي به من رياح مسمومة. نحن مدعوون بقوة إلى إحياء ذلك المنهج الأصيل في التفاعل الحضاري مع غيرنا، إذ لا مجال في العالم للعزلة والانطواء، ينبغي ألا تخيفنا العولمة لأننا نعيش في رحاب نهج القرآن الذي يقر بمبدأ الوحدانية في الأصل، فالله تعالى واحد والكون والإنسان واحد. الدور الريادي الحضاري المنتظر من المسلمين ليس أمراً سهلا، لأن المطلوب ليس الحضور الفاعل فحسب في عصر العولمة بل عولمة الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية باعتبارهما البديل الكفيل بتحقيق مبادئ العدل والحرية والأمن والسلام في العالم.ما هي أهم خصائص الثقافة العربية الإسلامية التي قد تكون حائط صد في مواجهة رياح العولمة؟الأساس الأول في الثقافة الإسلامية هو القرآن الكريم، لذا فإن خصائص الثقافة العربية عربية إسلامية لأنها نزلت بلسان عربي مبين وتأسست من خلال القرآن والسنة، ومن ثم فإن اللغة العربية هي لازمة أساسية من لوازم الثقافة الإسلامية، وتشكل محاولات فصل الثقافة عن اللغة والدين كارثة كبرى على الأمة ترسِّخها رياح العولمة. من أبرز خصائص الثقافة العربية الحفاظ على الهوية الإسلامية بجميع الأشكال والألوان في المأكل والملبس واللسان، وإذا نُزعت تلك الثقافة من زيّها العربي والإسلامي أصبحت الأمة من دون حضارة أو ثقافة، لذا يجب أن يثقف المسلمون أنفسهم بألسنتهم أولاً قبل التحاور مع الآخرين، فالعربية هي لسان الأمة، ومن يتحدثون عن التناقض بين العروبة والإسلام يختلقون قضية موهومة ولا أساس لها من الصحة، لأن الثقافة الإسلامية تتميز، بالإضافة الى عروبيتها وإسلاميتها، بالعالمية بالأساس، وتخاطب الناس جميعاً وهي ثقافة الإنسانية جمعاء، فضلاً عن أنها ثقافة أخلاقية، ويقول صاحبها ومؤسس قواعدها الأولى (صلى الله عليه وسلم): «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وتلك الأخلاق جزء لا يتجزأ من الثقافة العربية الإسلامية، ولا ينفصل المال أو العلم أو السياسة عن منظومة الأخلاق التي أسسها الإسلام، فالمال لا يجب استخدامه إلا في البناء وخدمة الأمة، والعلم لا يجب استخدامه إلا في ما ينفع الناس.كيف تنظر إلى الحضارات الساعية الى الهيمنة على مقدرات الشعوب الأخرى وإبادتها كما يحدث في فلسطين والعراق؟تخالف الإبادة الجماعية للشعوب والأبرياء، التي تحدث يومياً في العراق وفلسطين وغيرها من الأقطار، مبادئ الحضارة والثقافة الإسلامية، وتتفق مع حضارة يريد أصحابها من الأمة تقليدها واتباعها وإلغاء الهوية العربية الإسلامية من قاموس الإنسانية، مروجين لأفكارهم وأهدافهم من خلال ألسنتهم وأبواقهم المنتشرة في ربوع العالم العربي والإسلامي. تلك الأفكار والحضارات الوافدة والساعية الى الهيمنة على مقدرات العالم كله، لا سيما العالم الإسلامي، يروَّج لها على أنها الأفضل والأرقى وغير ذلك من عناصر الجذب المضللة، فيما يقال عن الإسلام إنه دين عنف وإرهاب وأتباعه هم مخربون ومدمرون للإنسانية، متناسين مقتل الآلاف على يد أصحاب «حضارة العولمة»، ومتجاهلين سماحة الإسلام وحفاظه على مخلوقات الله. يسعى أعداء الأمة جاهدين الى سلب ثقافة التسامح من العرب، لأنهم يعلمون يقيناً أن أمة الإسلام، إذا استمدت قوتها من ثقافتها، ستكون قوة مهيمنة ومؤثرة في العالم من حولها، وهم لا يريدونها نظيرة بل تابعة ومهيمن عليها، لذلك على كل عربي ومسلم الإمساك بثقافته الإسلامية، لأن تحييدها يعني القضاء على الأمة وليس على الدين، تعتز الثقافة الإسلامية بذاتها ولا يمكن دثرها مهما بلغت التحديات، والتمسك بأصولها وثوابتها هو حفاظ على ذاتية الأمة.النظريات التربوية الحديثة من أبرز نتائج العولمة الغربية، كيف تنظر إلى انعكاس نتائجها على الواقع الإسلامي؟أدى البعد عن المنهج النبوي في التربية واستبدال توجيهات النبي (صلي الله عليه وسلم) بنظريات العولمة الغربية في التربية الى الفساد الاجتماعي والخلقي والاقتصادي والسياسي وعلى المستويات كافة، ولمقاومة فساد العولمة يقوم دعاة الإصلاح في عالمنا العربي والإسلامي بجهد كبير في الدعوة الى الإصلاح في اتجاهات عدة واهتمامات متباينة ومناهج متغايرة، منهم من يتجه إلى وجهة إصلاح شؤون المال والاقتصاد ومنهم من يتجه إلى وجهة الإصلاح في المجال السياسي، وثمة من يجعل أكبر همه إصلاح أحوال الأسرة الإسلامية خشية أن يصيبها ما أصاب الأسرة الغربية من انهيار وتفكك. يبدأ الإصلاح الشامل بتطبيق التوجهات النبوية في مجال التربية، ويقضي اتخاذ التربية بصورتها الأولية الأسرية طريقاً الى التغيير استشعار كل أسرة مسؤوليتها الكاملة عن الآفات المجتمعية السائدة وتكاتفها لمواجهة الآفات المجتمعية في أبنائها وأنفسها لتخليص مجتمعها الصغير أولاً من آثارها ثم ليتكاتف الجميع للاستشفاء من هذه الأمراض الاجتماعية التي تحملها إلينا رياح العولمة، وللتغيير طريقان أحدهما خارجي والآخر داخلي، يكون الخارجي بمواجهة أصحاب هذه الآفات والمنكرات ومنعهم من تثبيت أسباب التخلف والهوان التي نعاني منها، والداخلي هو إعادة صياغة النفوس وصنعها من جديد بحيث ترفض الأمة ما يقدم إليها من أسباب الفساد والانحراف والتبعية والتخلف مهما حاول أصحابها تزيينها وتجميلها وإخفاء قبحها، ويكمن الطريق الأخير في ترسيخ المبادئ القرآنية في المجتمعات العربية والإسلامية وإعادة صياغة العلاقات الفردية والاجتماعية على أساسها بحيث تغيَّر مظاهر الخلل المتغلغلة في أوضاع حياتنا كلها.كيف ترى اتهام الغرب للإسلام بعدم صلاحية منهجه في حل المشاكل العالمية؟ لا شك في أن دعاة التغريب وأصحاب الفكر العلماني فشلوا في النيل من الإسلام على الرغم من حروبهم الشرسة، إلا أن الخصوبة الإسلامية تزداد في كل مكان، وعلينا كمسلمين أن ندع الأطروحة الغربية التي تدعو إلى العلمانية، فعندما لا تجد لها أذانًا صاغية في الكيان الإسلامي تذبل وتذوب، وكل ما يفعله أنصار العولمة الراهنة مجرد فوضى فكرية لأشخاص لا فكر لهم، فالإسلام بمنهجه صالح لكل زمان ومكان وأعداؤه يحاربونه لخطورته عليهم.في ظل وجود أكثر من دعوة للحوار مع الآخر، أي المسميات تفضل: حوار الأديان أم حوار ثقافات أم حوار حضارات؟أفضل مصطلح «حوار أهل الأديان»، فهذا ليس حوار ثقافات ولا حوار حضارات، إنما حوار أهل الأديان. أرفض مصطلح «حوار الأديان»، لأن الأديان مطلقات مسلَمة مقدسة لدى أهلها لا تحتمل حواراً، ولا أقبل أن يحاورني أحد في عقائد الإسلام أو شرائعه أو شعائره، فحوار أهل الأديان القصد منه التعايش، والحوار بيننا نحن البشر وليس بين أدياننا. أما حوار الحضارات فهذا أمر أكبر بكثير من حوار أهل الأديان، وهو لم يتأتَّ بعد، بالإضافة الى أن حوار الثقافات لم يتمّ حتى الآن، كل ما يجري إما حوار سياسيين أو اقتصاديين في سبيل المصالح السياسية والاقتصادية في بلادنا وبلادهم.ما هي العوامل التي ترى وجوب توافرها لإنجاح الحوار بين الحضارات؟أظن أنه لا يوجد حتى الآن من يمثّل الحضارات ليحاور باسمها، فلو ذكرنا مثلاً الحضارة الإسلامية لوجدنا داخلها حضارات عدة مثل الحضارة العربية والفارسية والهندوباكستانية في شبه القارة الهندية، وحضارة جنوب شرق آسيا في ماليزيا وأندونيسيا وما حولهما، كذلك ثمة الحضارة التركية التي شملت تركيا والبلاد الناطقة بالتركية التي كانت في الإتحاد السوفايتي السابق، والحضارة الإسلامية الإفريقية وفيها أمور عظيمة وممالك وسلاطين على مدى 14 قرناً ماضية، فالإسلام من حيث هو حضارة يشكل مظلة تشمل حضارات كثيرة. أولاً نحتاج إلى حوار بين أهل تلك الحضارات كلها، ليعبروا عن موقف ما يسمى بالحضارة الإسلامية، ونحتاج إلى تقريب الفارسية من العربية والتركية من الهندوباكستانية والماليزية الأندونيسية وهكذا. الخطوة الأولى لحوار الحضارات هي التقارب (ليس بمعنى أن يتنازل كل طرف قليلاً)، والتعارف الفكري والثقافي بين أهل كل حضارة ممن ينتمون إلى الإسلام والإطلاع على ثقافة الأخرين، وإطلاع الآخرين على ثقافتهم.من هي الجهة المؤهّلة للقيام بتلك المهمة؟الجهة الوحيدة المؤهلة لذلك هي منظمة المؤتمر الإسلامي، يجب أن يبدأ برنامج مهمته التقريب بين أصحاب الحضارات الإسلامية المختلفة وتحاورهم لنواجه الغرب بمجموعة حضارية إسلامية تحاور حوار حضارات، وهنا سيختلف حوار الحضارات عن حوار أهل الأديان لأنه سيتطرق إلى جوانب تعليمية وتربوية، وهي أوسع وأشمل من حوار أهل الأديان، لذا لا بد من أن نتحاور في ما بيننا أولاً لنعبر تعبيراً واحداً عن الحضارة الإسلامية، وعندئذ تأتي مرحلة مواجهة الحضارات الأخرى: الأوروبية والصينية واليابانية، وتقف على البعد قليلاً الحضارة الأميركية التي تدعي لنفسها أن أهلها وامتدادها من أوروبا، وينبغي التحاور معها على ذلك الأساس، والحضارة الأوروبية ستدخل فيها دول أوروبا مجتمعة بما فيها روسيا ودول الاتحاد السوفياتي السابق من دون الدول الإسلامية هناك، والحضارة الأميركية تدخل معها الحضارة الأسترالية لأن استراليا وأميركا كما لو كانتا طرفي خيط متصل، فلو حدث التقريب بين ممثلي الحضارات الإسلامية المختلفة نستطيع أن نتقدم إلى العالم ونقول هذا حـوار الحضارات، وقـد بدأ الجهد حقيقة للمرة الأولى عام 2001 في منظمة المؤتمر الإسلامي بناء على دعوة الرئيس محمد خاتمي وشاركت ممثلاً لمصر في الوفد الذي أعدّ مشروع وثيقة حوار الحضارات، والتي قُدمت إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة وأُدرجت كإحدى وثائقها، لكن مات الموضوع.رفض الحوار مع اليهود الصهاينةماذا عن موقفك الرافض للحوار مع اليهود الصهاينة في ظل احتلالهم الأراضي الفلسطينية وإبادة المسلمين؟ لا يجوز لعربي ولا لمسلم أن يتحاور مع الصهاينة تحت أي مسمى، فالذي يجمعنا بالصهاينة المحتلين لفلسطين الحرب فحسب والمقاومة الى أن يزول ذلك الكيان الباغي وتقوم دولة ديموقراطية تشمل النصارى والمسلمين واليهود على أسس ديمقراطية، والذي يفوز في صندوق الإنتخابات يحكم الدولة، والذي يخسر يقبل الوضع سواء كان يهودياً أم مسيحياً أم مسلماً. أما اليهود فليس بيني وبينهم أي شيء، فاليهود غير الصهاينة أهل كتاب أحترم كتابهم وأجلّ نبيهم وأعتقد بصحة رسالته ونبوّته، واليهود الآن يعضدون الصهيونية ويدعمونها بمالهم وفكرهم وأجسادهم، وليس بيننا وبينهم إلا المقاومة الى أن تعود فلسطين عربية مسلمة ديموقراطية، ولا أقول كما قالوا هم عندما أتوا إلينا وطردوا أهلنا إلى الخارج (8 ملايين فلسطيني مشرد في دول العالم المختلفة) بل أقول إن الدولة والأرض تتسع للجميع، وليعد الفلسطينيون من الخارج وتجرى انتخابات ديموقراطية وتكون الدولة محكومة بقوة الديموقراطية وليس بقوة الحديد والنار، أما الحاصل الآن فهو استعباد لا يقبله إلا كل خانع وذليل، لا أحب لشعبي ولا لأمتي أن تكون خانعة ذليلة، لذا لا أحاور الصهاينة تحت أي مسمى وأرفض محاورتهم وأشعر بالأسى الشديد للحكام الذين يضطرون إلى لقائهم ومحاورتهم وأدعو الله أن ينقذهم مما هم فيه، لكن الشعوب لا يجوز أن تحاورهم بأية حال من الأحوال.