رحلة صعبة طويلة قطعها مجمع اللغة العربية في القاهرة إلى أن أصبح مؤسسة قائمة، رحلة تدلنا على وجود تيار جارف يقف وراء الفكرة ويصر على تحقيقها، هو التيار الذي كان يسعى إلى تحرير البلاد من الهيمنة التركية والاحتلال الغربي، والكشف عن الهوية الوطنية، التي كان التعبير عن بزوغها يترى ويتكثف، وحسبنا أن نقرأ ما قاله الوالي «سعيد» حاكم مصر الذي افتتح حكمه في 1854م بكلمات تقول: «أود أن أعرف ما هي العروق التركية والجركسية في جسدي لأفتحها وأتخلص من هذا الدم الممقوت، وحيث إنني أعتبر نفسي مصرياً؛ فمن الواجب أن أربي أبناء هذا الشعب وأهذبه تهذيباً حتى أجعله صالحاً لأن يخدم بلاده خدمة صحيحة نافعة، ويستغني بنفسه عن الأجانب، وقد عاهدت نفسي على إبراز هذا الرأي من الفكر إلى العمل».

Ad

وقد علق الزعيم «أحمد عرابي» - الذي كان آنذاك برتبة قائمقام (عقيد) - على ما قاله الوالي في مذكراته قائلاً: «إن هذه الكلمات هي حجر الأساس في مبدأ مصر للمصريين».

ولا شك في أن اللغة العربية كانت - ومازالت ـ مرتكزاً أساسياً وركناً لا غنى عنه من أركان الهوية العربية، سواء كنا نتحدث عن تلك الرابطة التي تجمع العرب كلهم، أم كنا نتحدث عن قطر واحد من الأقطار العربية، وهي حقيقة فطنت إليها النخبة العربية في تلك السنوات الملتهبة من ختام القرن التاسع عشر.

سياسة إجرامية

كانت الدولة العثمانية تترنح قبل سقوطها، الذي جاءت هزيمتها في الحرب العالمية الأولى لتعلنه لا لتخلقه، فهو سقوط صنعته عوامل الانهيار الداخلى والضغوط الدولية التي نخرت جسد الدولة لأكثر من قرن من الزمان، كانت فيه الدولة عبئاً على «ولاياتها» التي أخذت تتطلع إلى الاستقلال، ووصل الأمر إلى ما عبر عنه الخديوي عباس حلمي الثاني (حكم مصر من 1892 إلى 1914م) حيث كتب في مذكراته: «لم أحصل أبداً من الباب العالي على قرار واضح في صالح تحرير مصر. حينما عُزل السلطان عبد الحميد وسيطرت لجنة الاتحاد والترقي على تركيا أصبحت السياسة التركية في مصر (إجرامية) وفتحت المدارس التركية أبوابها لكل العناصر الفاشلة، وكان يكفي الرسوب في امتحانات المدارس المصرية لكي يجد أحدهم لنفسه مكاناً مميزاً في استانبول».

و»عباس حلمي» هو الخديوي الذي شهد عهده انبثاق الحركة الوطنية، وكان الخديوي نفسه يعتمد عليها لموازنة الضغوط التي يتعرض لها من المحتل الإنجليزي من جهة، ومن الدولة العثمانية من جهة أخرى، وفي هذا السياق أحاط نفسه بكوكبة من رجال الوطنية والعروبة، منهم: الزعيم «مصطفى كامل، وأمير الشعراء «أحمد شوقي»، والإمام «محمد عبده» وصديقه «محمد توفيق البكري»، وفي عهده أنشئت الأحزاب المصرية الثلاثة الأولى: الحزب الوطني، حزب الأمة، حزب الإصلاح الدستوري. كانت أحزاباً تعكس الاتجاهات الأساسية في الحركة الوطنية، وكانت مسألة «اللغة» تفرض نفسها على أطروحاتها، بل على الساحة السياسية والفكرية كلها، بقوة. لدرجة بدت فيها اللغة أحياناً وكأنها محور الصراع، ولهذا كرس المهندس الإنكليزي «وليم ويلكوكس» معظم محاضراته التي ألقاها في نادي الأزبكية في ديسمبر 1892م للهجوم على اللغة العربية، كان عنوان المحاضرة «لمَ لمْ توجد قوة الاختراع لدى المصريين الآن؟» وقد اعتبر «ويلكوكس» التمسك بالعربية على رأس أسباب التخلف، وطالب باستبدالها باللهجة العامية. و«ويلكوكس» هو المهندس الذي قام ببناء «خزان أسوان» على غير هوى الحكومة البريطانية ومندوبها السامي في مصر «اللورد كرومر» الأمر الذي هدده بفقدان وظيفته، وهو أيضاً أحد المكتتبين لإصدار جريدة «المؤيد» التي كان يديرها الشيخ «علي يوسف» وكانت أعلى الجرائد صوتاً ضد الاحتلال البريطاني، لهذا اهتمت الأوساط الثقافية بمحاضرته، ونشرتها صحف، ومنها جريدة «الأزهر»، نشراً محايداً بلا تعليق، بينما اهتمت صحف أخرى بالرد عليها وتفنيدها، وقد ظلت أصداء دعوة «ويلكوكس» تتردد بين آن وآخر، ومن ذلك أن القاضي «ولمور» أحد القضاة الإنكليز في مصر ألف في 1902 كتاباً أسماه «لغة القاهرة»، اقترح فيه كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية، وقد أشادت به مجلة «المقتطف»ـ الموسومة بموالاتها للاحتلال ـ وراحت تروج لما جاء فيه، بينما قابلته الحركة الوطنية بعاصفة من الرفض العنيف.

مجمع البكري

من رحم تلك السنوات ولدت فكرة إنشاء مجمع للغة العربية، ليكون هيئة علمية تتصدى للذود عنها مؤدية بهذا الذود دوراً وطنياً وسياسياً، كانت الفكرة قد برقت من قبل حين دعا إليها الوزير «عبد الله فكري» في العام 1881م، لكن قيام الثورة العربية وما تلاها من احتلال الإنكليز لمصر جعل الفكرة تخبو قبل أن تلقى ما تستحق من اهتمام، حتى تم إحياؤها مرة أخرى على يد «محمد توفيق البكري» النابغة الذي أتم تعليمه في الأزهر وأصبح شيخاً لمشايخ الطرق الصوفية ونقيباً للأشراف وشيخاً للطريقة البكرية ـ المنسوبة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه - في العام 1892م وهو في الثانية والعشرين من عمره، وفي السنة نفسها انطلق أول مجمع للغة العربية برئاسته، ولنلاحظ أنها السنة التي تولى فيها «الخديوي عباس حلمي» حكم مصر، وكان الخديوي والبكري زميلي دراسة في المدرسة «العلية» التي بناها الخديوي «توفيق» - والد عباس حلمي - لتعليم أبنائه، وكان يسمح لأبناء الصفوة وعلية القوم بالالتحاق بها. وقد أبدى «محمد توفيق البكري» نبوغاً في كل مراحل حياته، إلى أن أصيب باضطراب نفسي عام 1912م فقصد مصح «العصفوري» في بيروت للعلاج، وعاد إلى مصر في 1928 ليلزم بيته حتى توفاه الله في أغسطس (آب) 1932، وهي السنة نفسها التي شهدت رحيل الشاعرين الكبيرين «حافظ إبراهيم» و «أحمد شوقي».

كان «كعب أخيل» الذي تستهدفه سهام الهجوم على العربية هو ما ادعاه خصومها - مثل «ويلكوكس» و«ولمور» - من قصور العربية بدليل اضطرار العرب إلى استخدام الألفاظ الأجنبية التي تدل على المخترعات وأدوات الحضارة الحديثة، وهو ادعاء يلوي الحقائق ويتجاهل أعراف اللغة ودروس التاريخ، ذلك أن الأدوات والمخترعات تستمد أسماءها - غالباً - من لغة الأمة التي ابتكرتها واستحدثتها، ثم تنتقل كما هي أو بتغيير طفيف إلى باقي اللغات، من غير أن يدل هذا على نقص فيها. لكن المغرضين الذين استهدفوا العربية تجاهلوا هذه الحقيقة، وصوروا الأمر وكأن هناك نقصاً يعيب لغتنا، وتصور من نهضوا للدفاع عنها أنه لا بد من عمل جاد يسد هذا النقص. كان أنصار العربية يردون بمنطق لخصه الشاعر «حافظ إبراهيم» في قصيدته «اللغة العربية تنعي حظها بين أهلها» التي يقول فيها على لسان «العربية»:

وسعتُ كتــاب الله لفظا وغايـةً وما ضقتُ عن آيٍ به وعظاتِِ

فكيف أضيقُ اليوم عن وصف آلةٍ وتنسيق أســماء لمخترعاتِِ

على أن الاعتماد على هذا المنطق - وحده - في الدفاع لم يكن كافياً، وأدرك الرجال الذين تداعوا لإعلان أول مجمع للغة العربية في بيت الشيخ «البكري» أن الأولى بهم هو العمل على سد ذرائع الانتقاص من قدر لغتهم بالاجتهاد في «تعريب» ألفاظ الحضارة وأسماء المخترعات، ولهذا كان «التعريب» هو الهم الأول والإنجاز الباقي من «مجمع الشيخ البكري»، ولعله مازال المهمة الأولى على جدول أعمال مجامعنا اللغوية.